«عاصمة الجواسيس».. النمسا تعين أول امرأة على رأس جهاز الاستخبارات الداخلية
بعد أن أعلنت الحكومة النمساوية رسميًا حسم اختيار المديرة الجديدة لجهاز الاستخبارات الداخلية (DSN)، دخلت البلاد مرحلة غير مسبوقة بتعيين سلفيا ماير أول امرأة تتولى رئاسة جهاز أمني استخباراتي رفيع في تاريخ النمسا.
هذا القرار لم يكن مجرد خطوة إدارية، بل حمل دلالات سياسية ومؤسسية عميقة، عكست توجّهًا نحو تحديث المنظومة الأمنية وإعادة ضبط علاقتها بالداخل والخارج، خاصة في ظل بيئة أمنية أوروبية مضطربة، وفقا لتحليل صحيفة إنتل نيوز.
مسار استثنائي نحو القمة
أشارت الصحيفة إلى أن سلفيا ماير ليست اسما طارئا في مجتمع الاستخبارات النمساوي. فمنذ أكتوبر 2023 شغلت منصب نائبة مدير الجهاز لشؤون الاستخبارات، وتولت خلال الأسابيع الأخيرة مهام المدير بالإنابة، على أن تبدأ رسميًا ولايتها الكاملة في الأول من يناير 2026.
اللافت أن ماير لم تتفوق على منافسيها فحسب، بل هيمنت على عملية الاختيار بالكامل، إذ كانت المرشحة الوحيدة التي صُنّفت «مناسبة بدرجة عالية» — وهي أعلى درجة تقييم — بينما اعتبر بقية المتقدمين الأحد عشر، ومن بينهم امرأتان، غير مناسبين.
خلفية مهنية وأكاديمية
بدأت ماير مسيرتها بعد تخرجها من معهد تقني عالٍ متخصص في تكنولوجيا المعلومات، ما منحها لقب مهندسة، قبل أن تنضم إلى الشرطة النظامية في مدينة لينتس.
وفي عام 2012 انتقلت إلى جهاز حماية الدستور ومكافحة الإرهاب (BVT)، سلف DSN، حيث كلفت بداية بمكافحة التطرف، ثم تكليفهت بتأسيس وحدة متخصصة في حماية البنية التحتية الحيوية عام 2013، وترأستها لسنوات.
وبين 2020 و2021 تولت رئاسة إدارة الحماية والأمن بالإنابة، قبل أن تنتقل، عقب إعادة هيكلة الجهاز في 2021، لإدارة شؤون الاستراتيجية والسياسات والموارد داخل DSN، ثم منصب نائبة المدير للاستخبارات.
وبالتوازي مع عملها الأمني، واصلت ماير مسيرتها الأكاديمية، فحصلت على شهادة في القانون، ثم الدكتوراه في التخصص نفسه عام 2021 من جامعة فيينا، إضافة إلى درجة ماجستير في الإدارة الاستراتيجية للأمن من جامعة العلوم التطبيقية في فينر نويشتات.
شخصية قيادية متعددة الأبعاد
إلى جانب مسيرتها المهنية، تعرف ماير بكونها رياضية بارزة؛ فقد لعبت كرة القدم منذ سن المراهقة، وشاركت في الدوري النمساوي، كما انضمت إلى منتخب النمسا النسائي تحت 19 عامًا.
وتؤكد في تصريحاتها المتكررة أنها تسعى إلى إلهام النساء لتولي أدوار قيادية في مؤسسات يهيمن عليها الرجال، معتبرة أن الكفاءة لا ترتبط بالنوع الاجتماعي.
انتقال القيادة وسياق أمني حساس
جاء تعيين ماير بعد إعلان المدير الحالي للجهاز عمر حياوي-بيرشنر تنحيه نهاية 2025 لأسباب شخصية غير معلنة، في خطوة مفاجئة نظرًا لنجاح ولايته الأولى وخبرته الطويلة في الشرطة النمساوية.
وخلال سنواته، تمكن DSN من إحباط عدة مخططات إرهابية، معظمها مرتبط بتنظيمات إسلامية متطرفة وأخرى لليمين المتطرف، ولم تشهد النمسا سوى هجوم دموي واحد في فبراير 2025 بمدينة فيلاخ.
كما برز الجهاز دوليا في أغسطس 2024، حين أُحبط مخطط لاستهداف إحدى حفلات المغنية العالمية تايلور سويفت في فيينا، قبل ساعات من انطلاقها، ما أدى إلى إلغاء الحفلات الثلاث، وأثار نقاشًا واسعًا حول إدارة المخاطر والرسائل السياسية المصاحبة لمكافحة الإرهاب.
تحديات داخلية وخارجية متشابكة
وتتسلم ماير مهامها في لحظة دقيقة، حيث تواجه النمسا انتقادات أوروبية بسبب بطء فك ارتباطها الاقتصادي مع روسيا، في ظل استمرار استثمارات ضخمة لشركات وبنوك نمساوية داخل السوق الروسية.
كما لا تزال فيينا تُوصَف بأنها «عاصمة الجواسيس»، مع اتهامات بعدم بذل جهود كافية للحد من نشاط الاستخبارات الأجنبية، لا سيما الروسية.
في هذا السياق، أرسلت ماير رسالة واضحة عندما وصفت روسيا، في مقابلة مع صحيفة دي برسّه، بأنها "أكبر تهديد للجمهورية"، مؤكدة ترشحها للمنصب، في إشارة فسرها مراقبون كرسالة مزدوجة للحلفاء الغربيين ولموسكو على حد سواء.
ويمثل تعيين سلفيا ماير تحولا نوعيا في تاريخ الاستخبارات النمساوية، يجمع بين كسر السقف الموضوع مسبقا لترقية النساء إلى مناصب حساسة وإعادة صياغة الدور الأمني للدولة في بيئة دولية شديدة التعقيد.
غير أن نجاح أول رئيسة جهاز مخابرات في تاريخ النمسا سيعتمد على قدرتها على تجاوز مقاومة التغيير، ومواجهة الحسابات السياسية، وترسيخ دور الاستخبارات كـ«نظام إنذار مبكر للجمهورية»، كما تصفه هي نفسها، في زمن تتعاظم فيه المخاطر وتتقلص فيه هوامش الخطأ.





