عودة الجذور الجهادية.. لماذا تتعثر الحرب على داعش في سوريا؟
منذ سقوط النظام السابق ودخول سوريا مرحلة بالغة التعقيد، واجهت الحكومة الانتقالية الجديدة واقعا أمنيا مثقات بتحديات متراكمة؛ فبدل أن تشكل هذه المرحلة فرصة لترميم الدولة وبناء مؤسسات حديثة قادرة على فرض الاستقرار، عادت الجذور العميقة للفكر الجهادي إلى الظهور بوصفها عاملا معرقلا لأي مسار أمني مستدام.
ومع محدودية خبرة الحكومة الانتقالية في إدارة الملفات الأمنية الحساسة، باتت جهود مكافحة تنظيم داعش تصطدم بعوائق بنيوية، ما أعاد إلى الواجهة مخاطر انزلاق البلاد نحو موجة جديدة من العنف وعدم الاستقرار، وفقا لصحيفة آراب ويكلي اللندنية.
جذور الجهادية في المشهد السوري
لم تنشأ الجهادية في سوريا من فراغ، بل تشكلت عبر سنوات طويلة من الصراع والانقسامات الاجتماعية والطائفية التي مزقت النسيج الوطني. وقد وفرت الحرب الممتدة بيئة مواتية لانتشار خطاب العنف والتطرف، خاصة في المناطق المهمشة التي عانت من غياب الدولة وتفكك مؤسساتها.
ورغم الهزائم العسكرية التي مُني بها تنظيم داعش وخسارته معاقله الكبرى، فإن بنيته الفكرية والتنظيمية لم تُستأصل بالكامل، إذ احتفظ بخلايا متنقلة في البادية السورية ومناطق نائية أخرى، مستفيدًا من الفراغ الأمني وصعوبة السيطرة الجغرافية.
إلى جانب ذلك، ساهمت الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، من فقر وبطالة وانهيار الخدمات الأساسية، في تعميق مشاعر الإحباط والغضب لدى شرائح واسعة من السكان.
هذه الظروف وفّرت أرضية خصبة لإعادة تجنيد عناصر جديدة، لا سيما بين الشباب الذين وجدوا في الخطاب الجهادي وسيلة للتعبير عن السخط أو البحث عن دور ومعنى في واقع مأزوم.
محدودية قدرات الحكومة الانتقالية
في مواجهة هذا الإرث الثقيل، وجدت الحكومة الانتقالية نفسها أمام مهمة تتجاوز إمكاناتها الحالية. فعلى المستوى المؤسسي، تضم الحكومة شخصيات تكنوقراطية تملك خبرة إدارية، لكنها تفتقر إلى الخبرة الميدانية المتخصصة في مكافحة التنظيمات المتطرفة. هذا النقص انعكس في ضعف القدرة على صياغة استراتيجية أمنية شاملة تجمع بين العمل العسكري والمعالجة الاجتماعية والفكرية للتطرف.
كما أدى ضعف التنسيق بين الجيش والأجهزة الأمنية المختلفة إلى ظهور ثغرات استغلها تنظيم داعش لتنفيذ هجمات متفرقة، أربكت المشهد الأمني وأضعفت ثقة السكان بقدرة الدولة الناشئة على حمايتهم.
وزاد من تعقيد الوضع غياب الدعم الدولي الكافي، إذ بقيت المساعدات الأمنية والتقنية دون المستوى المطلوب، ما حال دون بناء منظومة استخباراتية وأمنية متماسكة قادرة على الاستجابة السريعة والفعالة.
عودة داعش واستراتيجية الاستنزاف
في ظل هذه الظروف، أعاد تنظيم داعش تنشيط حضوره الميداني بوتيرة متصاعدة. فمنذ مطلع عام 2025، نفذ التنظيم عشرات الهجمات التي استهدفت مقرات حكومية ونقاط أمنية ومراكز شرطة، في محاولة لإظهار عجز الحكومة عن بسط سيطرتها.
كما عمل على إعادة تفعيل شبكات تهريب السلاح عبر الحدود العراقية، ما سمح له بتعزيز قدراته القتالية والحفاظ على مرونته العملياتية.
واعتمد التنظيم بشكل متزايد على استراتيجية الإنهاك المستمر، القائمة على ضربات صغيرة ومتكررة لا تهدف إلى السيطرة على الأرض بقدر ما تسعى إلى استنزاف القوى الأمنية وتقويض ثقة المجتمع بالحكومة الانتقالية، وإبقاء حالة عدم الاستقرار قائمة.
التداعيات الإقليمية والدولية
لا تقتصر تداعيات هذا المشهد على الداخل السوري فحسب، بل تمتد إلى الإقليم بأكمله. فعودة نشاط داعش تثير مخاوف حقيقية من انتقال العنف إلى دول الجوار، لا سيما العراق ولبنان والأردن، في ظل الحدود المفتوحة والتداخلات الأمنية.
ورغم مراقبة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة للتطورات عن كثب، فإن الحذر يطغى على مواقفه، مع تردد واضح في الانخراط مجددًا في عمليات عسكرية واسعة قد تعيد إنتاج سيناريوهات التدخل السابقة.
وفي المقابل، تستثمر روسيا وإيران تصاعد خطر داعش لتبرير استمرار نفوذهما العسكري والسياسي في سوريا، مقدمتين نفسيهما كضامنين للأمن في مواجهة الإرهاب، وهو ما يضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى المشهد السياسي ويحد من قدرة الحكومة الانتقالية على التحرك بحرية.
ويعكس الواقع السوري الراهن معادلة شديدة التعقيد، تتداخل فيها جذور جهادية عميقة لم تُعالج اجتماعيًا وثقافيًا، مع حكومة انتقالية محدودة الخبرة والموارد، ومع بيئة إقليمية ودولية مترددة في تقديم دعم حاسم.
في هذا السياق، يستثمر تنظيم داعش هشاشة المرحلة الانتقالية ليعيد تنظيم صفوفه ويثبت حضوره، بينما يبقى مستقبل الأمن في سوريا مرهونًا بقدرة الدولة الجديدة على بناء مقاربة شاملة تتجاوز الحلول الأمنية الضيقة، وتدمج بين الاستقرار السياسي والتنمية الاجتماعية ومكافحة التطرف على المدى الطويل.





