منع تقرير عن تعذيب سجناء سيكوت يفتح ملف استقلال الإعلام الأمريكي| تفاصيل
أعاد منع بث تقرير استقصائي عن التعذيب داخل سجون سيكوت، سيئة السمعة في السلفادور، فتح ملف بالغ الحساسية حول استقلالية الإعلام الأمريكي وحدود حريته عند تقاطع الصحافة مع الأمن القومي والسياسة الخارجية. فالقضية لم تعد تتعلق بتقرير تلفزيوني مؤجل، بل بكشف آلية جديدة تفرغ العمل الصحفي من جوهر دوره الرقابي، عبر تحويل الامتناع الرسمي عن التعليق إلى أداة ضغط فعالة.
وقد تناولت مجلة رسبونسبل ستيتكرافت الأمريكية هذه الواقعة بوصفها مؤشرًا خطيرًا على تآكل الدور النقدي للإعلام، خصوصًا في تغطية سياسات خارجية وأمنية مثيرة للجدل.
تحقيق «60 دقيقة».. شهادات موثقة وقرار مفاجئ
وفي جوهر القصة، كان برنامج "60 دقيقة" يستعد لبث تحقيق موثق يتناول شهادات مروعة عن التعذيب وسوء المعاملة داخل سجن سيكوت، حيث نقل مئات المرحلين خلال العام الماضي بقرارات مباشرة من إدارة ترامب.
واستند التقرير إلى إفادات وشهادات مباشرة، ومعطيات حقوقية، وسياق سياسي أوسع يربط بين سياسات الترحيل القسري وتصدير الانتهاكات إلى خارج الحدود الأمريكية. غير أن القرار المفاجئ بسحب التقرير من جدول البث قلب المشهد رأسا على عقب.
من جانبها، بررت رئيسة التحرير الجديدة في شبكة "سي بي إس"، باري وايس، قرارها بأن التقرير «غير مكتمل» لعدم تضمنه تعليقا رسميا من إدارة ترامب.
هذا التبرير، الذي قد يبدو مهنيا في ظاهره، أثار عاصفة داخل غرفة الأخبار نفسها، لأنه يضع معيارًا جديدًا للنشر مفاده أن السلطة التنفيذية تملك عمليًا حق تعطيل أي قصة بمجرد الامتناع عن الرد.
هنا لم يعد الصحفي مطالبًا بالتحقق والتوثيق فقط، بل بالحصول على «موافقة صامتة» من السلطة كي يرى تحقيقه النور.
هذا المنطق وصفته مراسلة التحقيق الرئيسية، شيرين ألفونسي، بأنه "فيتو سياسي" رغم محاولات التبرير أو التجميل، محذرة من أن القبول به يعني تسليم مفاتيح النشر للحكومة. فحين يصبح الصمت الرسمي سببًا كافيا لدفن تحقيق، تنتقل الرقابة من كونها فعلا مباشرا إلى ممارسة دائمة وغير مرئية، لكنها أكثر فاعلية وخطورة.
تتجاوز خطورة الواقعة حدود تقرير واحد أو برنامج بعينه. إذ ترى تحليلات رسبونسبل ستيتكرافت أن ما جرى يهدد مستقبل تغطية ملفات شديدة الحساسية، مثل سياسات الحرب، والعلاقات الأمريكية الإسرائيلية، والتدخلات الأمنية في أمريكا اللاتينية. فإذا ترسّخ هذا النهج، ستصبح التحقيقات المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان أو القرارات العسكرية الكبرى رهينة حسابات سياسية، لا معايير مهنية.
وتكتسب القضية بعدًا إضافيًا في ظل الجدل المستمر حول دور باري وايس داخل المؤسسة الإعلامية، حيث يتخوف منتقدوها من تحولها إلى «حارسة بوابة» تضبط سقف الخطاب، خصوصًا في كل ما يمس إسرائيل أو حلفاء واشنطن.
وقد عززت هذه المخاوف قرارات سابقة بتقديم شخصيات إعلامية معروفة بمواقف أيديولوجية واضحة إلى مواقع مركزية في نشرات الأخبار، ما يطرح تساؤلات حول توازن التغطية واستقلال القرار التحريري.
الأخطر من ذلك أن شبكة سي بي إس لم تعد مجرد حالة لمؤسسة إعلامية منفردة، بل جزء من إمبراطورية إعلامية وتجارية متشابكة المصالح، ما يجعل أي انحياز تحريري ذا أثر مضاعف. ففي هذا السياق، يصبح الإعلام مهددًا بالتحول من سلطة رقابية إلى أداة تبرير ناعمة للسياسات الأمريكية، بدلًا من مساءلتها وكشف تبعاتها الأخلاقية والإنسانية.
وكشف حجب تقرير قضية التعذيب في سجون سيكوت عن معركة أعمق من توقيت بث تقرير. إنها معركة على من يملك حق تعريف الحقيقة، ومن يقرر ما يُعرض على الجمهور وما يُحجب عنه. وإذا كان منح السياسيين "زر إيقاف" للأخبار غير المرغوبة قد أصبح أمرًا واقعًا، فإن السؤال الجوهري لم يعد: لماذا تم منع هذا التقرير؟ بل: ما الذي سيمنع في الغد القريب، ومن سيدفع ثمن هذا الصمت؟





