صفقة الغاز بين مصر وإسرائيل: مكسب اقتصادي أم وهم سياسي؟| عاجل
رغم الضجيج السياسي والإعلامي الذي انطلق من تل أبيب وواشنطن مرافقا الإعلان عن صفقة غاز بقيمة 35 مليار دولار بين مصر وإسرائيل، تبدو الرهانات الأمريكية على تحويلها إلى مدخل لانفراجة سياسية إقليمية أقرب إلى الوهم؛ فواشنطن، التي سعت إلى ترتيب قمة تجمع الرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في القاهرة أو واشنطن، اصطدمت بحقيقة أن الاقتصاد لا يستطيع وحده تجاوز آثار حرب ممتدة، ولا محو صور الدمار والقتل التي ما زالت تتصدر المشهد في غزة، وفقا لمجلة رسبونسبول ستيتكرافت الأمريكية.
الصفقة، التي تنص على توسيع صادرات الغاز الإسرائيلي إلى مصر وضخ نحو 4 مليارات متر مكعب إضافية سنويًا حتى عام 2040، تم تقديمها أمريكيًا باعتبارها إنجازًا استراتيجيًا متعدد الأبعاد؛ فهي من جهة تدعم أمن الطاقة المصري، ومن جهة أخرى تعزز مكانة إسرائيل كمصدر إقليمي للطاقة، وتمنح أوروبا منفذًا إضافيًا بعيدًا عن الغاز الروسي.
لكن هذا المنطق البراجماتي يصطدم بعائق سياسي وأخلاقي كبير: الحرب على غزة وما خلفته من غضب شعبي ورسمي في الشارع العربي.
مصر: الاتفاق "تجاري بحت"
ولم يكن إعلان نتنياهو الموافقة النهائية على الصفقة من القدس، دون حضور أي مسؤول مصري، من قبيل المصادفة، فالقاهرة، التي منحت موافقتها الفنية بهدوء منذ يوليو، سارعت بعد الإعلان إلى التأكيد أن الاتفاق "تجاري بحت"، في رسالة واضحة تفصل الاقتصاد عن السياسة، وترفض تحويل الصفقة إلى منصة دعائية تخدم القيادة الإسرائيلية في لحظة شديدة الحساسية.
وخلف الكواليس، دفعت الإدارة الأمريكية، بدعم من دونالد ترامب ومستشاره جاريد كوشنر، باتجاه استثمار الصفقة لعقد قمة ثلاثية كدليل على صمود التحالفات الإقليمية رغم الحرب.
غير أن غياب أي استعداد مصري للمشاركة في هذا المشهد يعكس قراءة مختلفة للواقع. فوفق مصادر مطلعة، أبلغت القاهرة أطرافًا دولية بأن أي لقاء علني مع نتنياهو غير مطروح ما لم يحدث تغيير جذري في السلوك الإسرائيلي تجاه غزة والفلسطينيين.
وكانت العلاقة المصرية الإسرائيلية، التي وُصفت لعقود بـ" السلام البارد"، قائمة على توازن دقيق تديره المؤسسات الأمنية بعيدًا عن الرأي العام. غير أن حرب غزة كسرت هذا التوازن. فمشاهد الحصار والمجاعة والدمار الواسع حوّلت أي تقارب سياسي علني إلى عبء داخلي على القيادة المصرية، في وقت تتصاعد فيه حساسية الشارع تجاه القضية الفلسطينية.
وتعمقت الأزمة مع سلوك الحكومة الإسرائيلية نفسها، التي مارست في الأشهر الماضية سياسة حافة الهاوية، فتراجعت عن توقيع الصفقة، وشككت في شروطها، ما دفع وزير الطاقة الأمريكي إلى إلغاء زيارة كانت مقررة للقدس.
لكن هذه الخلافات التجارية لم تكن سوى انعكاس لأزمة ثقة أوسع، تتجلى في تجميد الاتصالات السياسية، ورفض القاهرة اعتماد السفير الإسرائيلي الجديد، وغياب أي تواصل مباشر بين الرئاسة المصرية ومكتب نتنياهو.
وبالنسبة لنتنياهو، تأتي الصفقة في توقيت بالغ الحساسية. فداخليًا، يواجه رئيس الوزراء الإسرائيلي أزمات سياسية وقضائية متراكمة، وضغوطًا انتخابية متصاعدة، في ظل فشل تحقيق «نصر حاسم» في غزة.
وخارجيًا، تتزايد عزلته الدولية، ما يجعله بحاجة إلى صور ومصافحات تؤكد أنه ما زال لاعبًا مقبولًا إقليميًا. لكن القاهرة ترفض لعب هذا الدور، وتصر على عدم الظهور كغطاء سياسي لحرب مستمرة على حدودها.
يتجسد الخلاف بشكل صارخ عند معبر رفح ومحور فيلادلفيا. فإسرائيل تضغط لفتح المعبر باتجاه واحد لخروج الفلسطينيين فقط، بينما ترى مصر في ذلك محاولة واضحة لتغيير التركيبة السكانية لغزة ودفع سكانها نحو سيناء. الاتهامات المتبادلة بين الطرفين — من مزاعم تهريب السلاح إلى اتهامات بانتهاك الترتيبات الأمنية التاريخية — تعكس درجة غير مسبوقة من الشك وانعدام الثقة.
ورغم كل هذا التوتر، فإن إتمام الصفقة كان شبه حتمي. فخطوط الأنابيب قائمة، والغاز يتدفق بالفعل.
ومصر، رغم رفضها التسييس، ترى في الصفقة مكسبًا اقتصاديًا مهمًا، إذ تتحول إلى مركز إقليمي لتسييل الغاز في إدكو ودمياط وإعادة تصديره إلى أوروبا التي تعاني من شح الطاقة.
هذا الدور يمنح القاهرة نفوذًا إضافيًا، ويجعلها شريكًا لا يمكن تجاوزه، وليس مجرد مستهلك.
هذا ما يفسر إصرار واشنطن على إنجاز الصفقة. فالولايات المتحدة ترى فيها مكسبًا ثلاثي الأبعاد: دعم أمن الطاقة الأوروبي، تعزيز مصالح شركات أمريكية كبرى، وإحياء — ولو شكليًا — فكرة التكامل الاقتصادي كمدخل لتخفيف التوترات السياسية. غير أن هذا الرهان يتجاهل حقيقة أن السياسة في الشرق الأوسط لا تُدار بالأرقام وحدها، بل بالرمزية والشرعية الشعبية.
ورجحت المجلة الأمريكية أن صفقة الغاز، مهما بلغت قيمتها، لا تستطيع وحدها ترميم علاقات تأثرت سلبيا بفعل حرب طويلة وصور دامية، فالأنابيب قد تستمر في الضخ، والعقود قد تُوقّع في هدوء داخل مكاتب الخبراء، لكن المصافحة العلنية، والصورة التذكارية، وإعلان "عهد جديد"، كلها تبقى مؤجلة. ففي ظل الدمار في غزة، لا يزال السلام باردًا، وربما أبرد من أي وقت مضى، مهما ارتفعت قيمة الغاز المتدفق تحت مياه المتوسط.





