الأربعاء 17 ديسمبر 2025 الموافق 26 جمادى الثانية 1447
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
مقالات

محمد إبراهيم طعيمة يكتب: ارحموا عبلة كامل

الرئيس نيوز

في بلدٍ اعتاد أن يرفع الفنان إلى السماء، ثم يتركه يسقط وحيدًا عند أول اختبار، لم يكن غريبًا أن تتحول الفنانة عبلة كامل فجأة من أيقونة محبة إلى ساحة جدل.. مجرد قرار علاج على نفقة الدولة كان كافيًا ليطلق سهامًا كثيرة، لم تُوجَّه إلى سياسات الدولة ولا إلى المنظومة الصحية، بل إلى امرأة مريضة، صامتة، لم تطلب شيئًا ولم تُبرِّر شيئًا.

السؤال الذي تردّد كثيرًا: هيّ عبلة كامل أَولى من غيرها؟

سؤال يبدو منطقيًا في ظاهره، لكنه قاسٍ في جوهره، لأنه يفترض أن المرض مسابقة، وأن الإنسان مطالب بتقديم كشف حساب عن حياته كي يستحق العلاج، مع أن الحقيقة التي يعرفها الجميع أو يفترض أن يعرفوها أن عبلة كامل لم تكن يومًا فنانة تبحث عن الأضواء منذ بداياتها، فقد اختارت أن يكون حضورها في العمل فقط، وأن يكون غيابها غيابًا كاملًا.. لم تتاجر بحياتها الخاصة، لم تُصادق الكاميرات خارج مواقع التصوير، ولم تُحوِّل نفسها إلى “تريند” حتى وهي في ذروة النجاح.

كانت عبلة دائمًا من هؤلاء الذين يأتون بهدوء ويتركون أثرًا طويلًا، كانت الأم التي تشبه أمهاتنا، والزوجة التي نصدق وجعها، والمرأة الشعبية التي لا تتصنّع.. لم تؤدِّ الشخصيات، بل سكنتها، ولهذا أحبها الناس دون مجهود.

ومن يعرف مواقفها القديمة، يدرك أن إنسانيتها لم تكن يومًا ادعاءً، فقد رفضت أكثر من مرة الظهور الإعلامي حين شعرت أن الكلام سيكون على حساب كرامتها أو خصوصيتها، وانسحبت من أعمال كبيرة لأنها لم تجد نفسها فيها، رغم الحاجة والنجاح، واختارت الاعتزال بهدوء دون ضجيج أو استدرار تعاطف.

والأهم أن هذا الاعتزال لم يكن هروبًا، بل اختيارًا واعيًا في عزّ النجومية، فلم تُغادر بعدما خفت الضوء، بل غادرت والضوء ما زال مُسلَّطًا عليها، حين كانت قادرة على الاستمرار، لكنها فضّلت أن تحتفظ بصورة الفنانة التي تحترم نفسها، لا التي تُستهلَك حتى آخر قطرة، حتى علاقتها بالجمهور كانت علاقة احترام متبادل، فلم تُزايد عليهم، ولم تتعامل معهم باعتبارهم جمهورًا يصفق، بل أناسًا يشبهونها وتشبههم، لذلك حين ابتعدت، افتقدها الناس دون أن يملّوا منها، وحين ظهرت صورتها، شعر كثيرون بالقلق عليها كأنها واحدة من العائلة.

وجاءت مداخلتها الهاتفية مع لميس الحديدي قبل يومين، لتؤكد كل ذلك.. لم تتحدث بغضب، لم تهاجم أحدًا، ولم تُدافع عن نفسها.. تحدثت بهدوء لافت، وقالت بوضوح إنها "مش زعلانه" من حد، ولا حتى من الذين هاجموها. لم تُسمِّ، ولم تُعاتب، ولم تُلوِّح بوجعها.

تحدثت أيضًا عن زملائها الفنانين الذين شملهم القرار، وكأنها تُصرّ على إخراج المسألة من إطار “هي” إلى إطار “نحن”.. لم تقبل المقارنة، ولم ترضَ أن تتحول الأزمة إلى سباق أحقية، وأكدت أن كثيرين منهم تعبوا وأعطوا عمرهم للفن، وأن المرض لا يختار أسماء ولا مهنًا.

هذه ليست كلمات فنانة تدافع عن صورة، بل إنسانة تعرف أن الوجع لا يُشفى بالرد، وأن الكرامة أحيانًا في الصمت.. إنسانة راقية، ترى أن التسامح ليس ضعفًا، بل قوة هادئة.

نعم، هناك أولويات كثيرة في الدولة، وهناك مرضى يحتاجون للدعم، وهذه أسئلة مشروعة، لكن تحويل النقاش إلى محاكمة أخلاقية لفنانة مريضة، هو ظلم مضاعف: ظلم للإنسان، وظلم للفكرة نفسها، لأن العدالة لا تُبنى بالقسوة، ولا تُدار بمنطق التشهير.

ارحموا عبلة كامل.. ليس لأنها فنانة مشهورة، بل لأنها إنسانة أعطت كثيرًا دون ضجيج، وعاشت حياتها باحترام، وتواجه مرضها الآن بكرامة وهدوء.

والرحمة، في النهاية، لا تُنقِص أحدًا، لكنها تكشف معادن البشر.. الرحمة ليست شعارًا عابرًا، ولا موقفًا مؤقتًا، بل جوهر إنساني أصيل، علّمنا إياه سيد الخلق، رسول الإسلام محمد صل الله عليه وسلم، حين قال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".