محمد إبراهيم طعيمة يكتب: "الميلاد".. حين يصعد الحلم إلى خشبة المسرح
في مساء هادئ من مساءات القاهرة، وعلى خشبة مسرح قصر النيل التي مرّ عليها الكثير من الحكايات، يأتي عرض "الميلاد" ليذكرنا بأن المسرح لا يزال قادرًا على أن ينهض من قلب الورش الصغيرة والأحلام الكبيرة، وأن العمل الجماعي، حين يُصنع بإخلاص، يمكن أن يهزم الضجيج ويقدّم تجربة لها قلب وروح قبل أن يكون لها إبهار.
من اللحظة الأولى، يدرك المشاهد أنه أمام مجموعة من الوجوه التي تدخل الخشبة للمرة الأولى بحذر يشبه خطوات طفل يتعلّم المشي، لكنه حذر ممتلئ بالحياة، بالوعي، وبالإصرار على أن يكونوا جزءًا من حكاية أكبر منهم.
هنا يظهر أثر الفنانة منى هلا، ليس كمدربة تمثيل فحسب، بل كمن يتعامل مع طاقات خام ويحاول أن يصوغ منها حضورًا قادرًا على ملامسة الجمهور، حيث نجحت في أن تُخرج منهم أداءً نظيفًا، متماسكًا، يشبه فريقًا واحدًا يتنفس الإيقاع ذاته، بلا مبالغة ولا افتعال، كأن كل واحد منهم يحاول أن يحمي اللحظة من الارتباك، وأن يمنحها صدقه الخاص.
يحكي "الميلاد" عن مجموعة من الشخصيات التي تجد نفسها في لحظة فاصلة من حياتها، لحظة تختلط فيها المخاوف بالرغبات، والانتظار بالأمل، فيتتابع على الخشبة مشاهد ترصد رحلة إنسانية تبحث عن معنى جديد للوجود، وعن لحظة يتغيّر فيها كل شيء.
المشاهد تُبنى على مشاعر بسيطة وقريبة من القلب: القلق، الترقب، الرغبة في الحماية، والسعي نحو بداية مختلفة. وهكذا يتحول الخط الدرامي للعمل إلى رحلة إنسانية هادئة، تُروى بالألحان والحركة أكثر مما تُروى بالكلمات.
الموسيقى التي قدّمها إبراهيم موريس وداليا فريد لم تكن مجرد لحن يرافق المشهد، بل كانت كخيط خفي يشد القصة من أطرافها ويمنحها ضوءًا إضافيًا، فالأغنية لا تقف فوق النص، بل تنبع منه، تتشكّل معه، وتكمل جملة بدأتْ بالكلام وتنتهي باللحن.
وربما لهذا لم يشعر أحد بأن هناك انقطاعًا، أو أن المشهد توقّف ليفسح مكانًا لاستعراض، فكانت الموسيقى مثل نَفَس طويل يمرّ بين الشخصيات، يشدّ العاطفة، ويعيد ترتيب الإحساس.
وقدّمت رينا أندراوس رؤية إخراجية تتكئ على الحركة أكثر من الخطابة، وعلى التكوينات الهادئة أكثر من الضجيج، فخرج العرض بإيقاع يمشي على قدمين ثابتتين طوال ساعة وخمسين دقيقة من دون أن يتعثّر أو يفقد حضوره، فالمشاهد تنساب واحدة بعد أخرى، والانتقالات تحدث كما لو أن الشاشة الداخلية للمسرح تُقلّب صفحات كتاب، لا فصلًا ينفصل عن فصل، بل حكاية تكمل حكاية.
ميريتيا عماد التي جسّدت شخصية مريم كانت واحدة من العلامات المضيئة في العرض؛ فبعيدًا عن شكلها القريب من صورة السيدة مريم، فقد جاء صوتها يحمل رهافةً نادرًا ما نجدها في أولى التجارب، وتمثيلها يتعامل مع الصمت كما يتعامل مع الكلام، ومع النظرة كما يتعامل مع الجملة.
وبجانبها، قدّم إيهاب شاوي في دور يوسف النجار، وجوزيف قزمان في في شخصية سمعان الشيخ، وباقي الفريق أداءًا موحدًا، كأنهم جميعًا اتفقوا على أن البطولة الحقيقية هي للنَفَس الجماعي، للورشة، للوقت الطويل الذي انصرفوه في التدريب، وليس لأحد بمفرده.
اختار فريق السينوغرافيا أن يقدّم ديكورًا يتيح للممثلين الحركة بحرية، دون تعقيد أو ازدحام، فيما جاءت الشاشات الخلفية كنافذة تطل على عالم آخر؛ حيوانات تتحرك، صحارى تمتد، أطلال تعود من الذاكرة، كلها إضافات صنعت شعورًا بأن المسرح أكبر مما نراه، وأن العالم المعروض لا يبدأ من حدود الخشبة ولا ينتهي عندها.
لم تكن أزياء العرض مجرد مكمّل بصري، بل كانت جزءًا أصيلًا من اللغة التي يتحدث بها "الميلاد"، المصمم روجيه ميخائيل قدّم اختيارات هادئة ومتناسقة مع الزمن الذي يستعيره العمل، دون مبالغة أو استعراض، وكأنه يعيد تشكيل اللحظة بروحها لا بشكلها فقط.. الأقمشة، درجات الألوان، والقطع التي تحافظ على سلاسة الحركة على الخشبة، كلها أسهمت في خلق حالة من الانسجام بين الممثل والملابس التي يرتديها، فبدت الشخصيات أقرب إلى حقيقتها، وأكثر صدقًا في حضورها، ما جعل المتفرج يشعر بأن المشهد مكتمل، وأن التفاصيل الصغيرة التي قد لا تظهر من النظرة الأولى، هي التي تمنح العرض ملامحه الحقيقية.
عرض "الميلاد" ليس مجرد تجربة غنائية، بل هو تذكير بأن الفن يمكن أن ينمو في الأماكن التي تُروى بالمحبة، وأن العمل الجماعي، حين يتساوى فيه الكبار مع الوجوه الجديدة، يصنع عرضًا لديه ما يقوله من دون صخب، ويترك في قلب المشاهد أثرًا يشبه ضوءًا صغيرًا يظل مضيئًا حتى بعد مغادرة القاعة.