تأجير الأرحام.. أثرياء صينيون ينجبون عشرات الأمريكيين| تفاصيل
كشف تحقيق موسّع نشرته صحيفة الإندبندنت البريطانية، عن ظاهرة تثير القلق والجدل تتمثل في لجوء أثرياء صينيين إلى الولايات المتحدة لإنجاب أطفال عبر تأجير الأرحام، مستفيدين من حق الجنسية بالولادة الذي يكفله التعديل الرابع عشر للدستور الأمريكي.
وتصف الصحيفة هذه الظاهرة بأنها "اختبار حقيقي لقوانين الجنسية الأمريكية"، إذ لم تعد حالات فردية معزولة، بل تحوّلت إلى مسار منظم تتبعه نخب مالية صينية تسعى لبناء ما يشبه "العائلات العملاقة" خارج حدود بلدها الأم.

ويشير التقرير إلى أن هذه الممارسات تستند إلى منظومة متكاملة تشمل وكالات متخصصة في تأجير الأرحام، وعيادات إخصاب متقدمة، ومكاتب محاماة أمريكية تعمل على تثبيت الأوضاع القانونية للأطفال، بما يضمن حصولهم تلقائيًا على الجنسية الأمريكية فور ولادتهم على الأراضي الأمريكية.
محكمة لوس أنجلوس تكشف المستور
داخل أروقة محكمة الأسرة في مدينة لوس أنجلوس، بدأت خيوط القصة تتكشف حين لاحظ موظفو المحكمة تكرار اسم رجل الأعمال الصيني شو بو في عدد غير اعتيادي من طلبات إثبات الأبوة.
وبعد تدقيق موسّع في الملفات، تبيّن أن شو يسعى قانونيًا لإثبات أبوة أربعة أطفال لم يولدوا بعد، إضافة إلى ثمانية آخرين أنجبهم بالفعل عبر أمهات بديلات أمريكيات.
وخلال جلسة مغلقة، أدلى شو بشهادته عبر اتصال مرئي من الصين، معترفًا بنيته إنجاب نحو عشرين طفلًا داخل الولايات المتحدة، مفضّلًا الذكور "لأنهم أفضل من الإناث"، وفقًا لمحضر الجلسة.
وردت القاضية إيمي بيلمان بشكل عبر عن صدمتها إزاء الطلب، ورفضت طلب الرجل الصيني، معتبرة أن تأجير الأرحام وجد بالأساس لبناء الأسر لا لتحويل الإنجاب إلى عملية إنتاج واسعة النطاق، وهو قرار ترك الأطفال في منطقة قانونية رمادية وجعلهم مجهولي المصير.
صناعة شبه منظمة
توضح الإندبندنت أن قرار القاضية بيلمان شكّل بمثابة إنذار مبكر لصناعة تأجير الأرحام الأمريكية، التي لا تزال تفتقر إلى تنظيم اتحادي فيدرالي موحّد. فالقوانين تختلف جذريًا من ولاية إلى أخرى، ما يسمح بوجود ثغرات قانونية تستغلها وكالات خاصة لخدمة زبائن عابرين للحدود.
وتشير الصحيفة إلى أن عددًا متزايدًا من الأثرياء الصينيين، بمن فيهم مليارديرات، يتجهون إلى الولايات المتحدة هربًا من الحظر الصارم المفروض على تأجير الأرحام داخل الصين.
بعضهم، المتأثر بنماذج ثقافية غربية مثل تجربة إيلون ماسك المعروف بإنجاب عدد كبير من الأطفال، يدفع ملايين الدولارات لتوظيف نساء أمريكيات بهدف بناء "سلالات عائلية لا تقهر" تمتد عبر الأجيال.
قصص تثير الجدل والصدمة
لا يقتصر الأمر على شو بو وحده. فبحسب وول ستريت جورنال، ارتبط اسمه بإنجاب أكثر من مئة طفل عبر تأجير الأرحام في الولايات المتحدة، وهو رقم صادم حتى داخل الأوساط الطبية والقانونية الأمريكية.
كما رصدت صحيفة وول ستريت جورنال حالة رجل الأعمال الصيني وانج هوي وو، الذي استعان بعارضات أزياء كمتبرعات بالبويضات لإنجاب عشر فتيات، مبررًا ذلك برغبته في تزويجهن مستقبلًا "برجال نافذين عالميا".
وتكشف هذه القصص عن دوافع متباينة، تتراوح بين هوس السيطرة وبناء السلالة، وبين استخدام الأطفال كوسيلة لتعزيز النفوذ الاجتماعي والسياسي في عالم باتت فيه الجنسية أداة قوة بحد ذاتها.
منظومة متكاملة بلا حضور الآباء
تلفت الإندبندنت إلى أن بعض الآباء الصينيين لم تطأ أقدامهم الولايات المتحدة مطلقًا، ورغم ذلك أنجبوا أطفالًا يحملون جنسيتها.
فقد تشكلت منظومة متكاملة تضم وكالات تأجير أرحام، وعيادات إخصاب، ومحامين، وشركات نقل لحديثي الولادة، إضافة إلى خدمات مربيات بدوام كامل.
وتصل تكلفة الطفل الواحد إلى نحو 200 ألف دولار، ما يجعل هذه السوق حكرًا على فئة ضيقة من فاحشي الثراء.
ويقول ناثان تشانغ، مؤسس شبكة عيادات “IVF USA”، إن الزبائن في الماضي كانوا يسعون للتحايل على سياسة الطفل الواحد الصينية، أما اليوم فقد ظهر جيل جديد يسعى لإنجاب عشرات أو حتى مئات الأطفال بدافع المكانة والخلود الرمزي.
الجنسية الأمريكية في قلب العاصفة السياسية
تضع هذه الظاهرة مبدأ الجنسية بالولادة تحت ضغط سياسي متزايد في الولايات المتحدة. فالتعديل الرابع عشر للدستور يمنح الجنسية تلقائيًا لكل من يولد على الأراضي الأميركية. غير أن وزارة الخارجية شددت منذ عام 2020 إجراءات منح التأشيرات للحوامل الأجنبيات للحد مما يعرف بـ"سياحة الولادة" وفقا لموقع وزارة الخارجية الأمريكية على الويب.
وفي يناير الماضي، أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترمب أمرًا تنفيذيًا يمنع منح الجنسية للأطفال المولودين في الولايات المتحدة ما لم يكن أحد الوالدين مواطنًا أو مقيمًا دائمًا، وهو قرار يخضع حاليًا لمراجعة المحكمة العليا، وفقا لصحيفة نيويورك تايمز.
كما طرح السيناتور الجمهوري ريك سكوت مشروع قانون لحظر استخدام تأجير الأرحام من قبل مواطني دول معينة، بينها الصين، مستشهدًا بتحقيق اتحادي كشف عن زوجين صينيين-أمريكيين أنجبا أكثر من عشرين طفلًا خلال أربع سنوات.
الصين: صمت رسمي وتحذير أخلاقي
رغم أن السلطات الصينية تحظر تأجير الأرحام داخليًا، فإنها غالبًا ما تغض الطرف عن لجوء مواطنيها إلى هذه الممارسة في الخارج.
ومع ذلك، حذرت وسائل إعلام رسمية من "أزمات أخلاقية واجتماعية خطيرة"، مستشهدة بقضية الممثلة تشنج شوانج التي استعانت بأمهات بديلات في أمريكا ثم حاولت التخلي عن الأطفال، ما أدى إلى تدمير مسيرتها المهنية وفقًا لصحيفة تشاينا دايلي.
كما أثارت تقارير عن إنجاب وزير الخارجية السابق تشين جانج لطفل عبر تأجير الأرحام في الولايات المتحدة نقاشًا حساسًا داخل الحزب الشيوعي حول ازدواجية المعايير والنفوذ والامتيازات.
تكشف هذه الظاهرة عن تقاطع معقد بين الاعتباات المالية والقانونية والأخلاقية والتكنولوجية. فهي تضع الولايات المتحدة أمام تحديات تتعلق بحق المواطنة بالولادة، وتنظيم صناعة تأجير الأرحام، وحماية حقوق الأطفال.
كما تطرح أسئلة أوسع حول قدرة القوانين الوطنية على ضبط ممارسات عابرة للحدود يقودها رأس المال والبحث عن النفوذ والاستمرارية.
ومع اتساع هذه السوق الرمادية، يبدو أن الجدل حولها لن يهدأ قريبًا، بل مرشح للتصاعد، في عالم تتداخل فيه السياسة والاقتصاد والبيولوجيا، وتصبح فيه الجنسية سلعة، والإنجاب مشروعًا، والحدود مفهومًا متآكلًا.