الخميس 28 مارس 2024 الموافق 18 رمضان 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تقارير

مذكرات جودة عبدالخالق (1): شفيق قال لي "لا يمكنني السماح لك بركوب المترو".. و"أخذت تاكسي" لحلف اليمين

الرئيس نيوز

-       يحيى الجمل توسط لعرض الوزارة عليّ.. وطلبت من الفريق شفيق 4 أشياء لقبول المنصب

-       لم أستأذن "التجمع" لأن الحكومة لم تكن ائتلافية.. وقلت لنفسي: "التأخر عن خدمة الوطن خيانة"

-       فضلت قراءة اليمين أما المشير طنطاوي من الذاكرة.. وهكذا تعاملت مع مشكلة "الكرافتة"

-       لقب "معالي الوزير" كان يخيفني.. وأكبر مخاوفي كانت أن أتغير بمرور الوقت

 

"بخلفية الثوري القادم من ميدان التحرير"، وافق الدكتور جودة عبد الخالق، أستاذ الاقتصاد، والمفكر اليساري، على قبول منصب وزير التضامن والعدالة الاجتماعية بعد أيام من تنحي الرئيس الأسبق حسني مبارك إثر ثورة 25 يناير.

18 شهرًا قضاها "عبد الخالق" في أربع حكومات متتالية، في فترة حكم المجلس العسكري، لكنه يعتبرها أعواما بمعيار الضغوط والتجارب، إذ انتقل من صخب الميدان وفورانه إلى دهاليز وتعقيدات الدولاب الحكومي وفي إحدى الوزارات الأقرب لمعيشة المواطن اليومية.

تلك التجربة التي خاضها الاقتصادي اليساري سجلها في كتاب "من الميدان إلى الديوان.. مذكرات وزير في زمن الثورة"، والصادر حديثًا عن دار الشروق، ويروي فيه بعد مقدمة تناولت سيرته السياسية والفكرية، تفاصيل الأزمات التي تعامل معها وكيف حاول تطبيق أفكار الأستاذ الجامعي المعارض في الملفات الوزارية.

"الرئيس نيوز" يعرض ما يمكن أن نسمّيه "المذكرات الوزارية" للاقتصادي اليساري البارز، على عدة حلقات، لوضع القارئ أمام رحلته كموظف عام بروح مفكر ثوري قادم من الميدان إلى الديوان.

 

"كان الأمر مفاجأة تامة لى!". هكذا يصف الدكتور جودة عبد الخالق شعوره عندما عُرض عليه المشاركة في حكومة الفريق أحمد شفيق الثانية.

يروي ملابسات ما حدث قائلا: "كانت الساعة تقترب من الثامنة والنصف مساء عندما دق جرس الهاتف فى منزلى. كان صوت المتحدث معروفًا لى وهو المرحوم الدكتور يحيى الجمل المحامى المعروف، ونائب رئيس حزب التجمع سابقا".

كان "الجمل" وسيطا لاستطلاع رأي الاقتصادي اليساري في الأمر: "الفريق شفيق متردد فى الاتصال بك مباشرة للانضمام إلى الوزارة، خشية أن ترفض، فإن كنت توافق، فسيقوم هو بالاتصال بك". فأجبته أننى على استعداد لمناقشة الأمر معه. وما هى إلا دقائق حتى جاءنى صوت الفريق أحمد شفيق على الهاتف".

عرض "شفيق" على "عبد الخالق" تولي حقيبة التضامن الاجتماعي قائلا: "يسعدنا أن تشترك معنا". فأجاب "عبد الخالق": "لا أتردد فى قبول أى منصب يحقق خدمة مصالح مصر"، وطلب مهلة للتفكير، فوعده رئيس الوزراء المكلف بأن يهاتفه في الصباح.

عن تلك الليلة، قبل الرد على "شفيق"، يقول جودة عبد الخالق: "عندما علمت زوجتي بأمر المكالمات الهاتفية، تبادلنا النظر كل إلى الآخر وقلنا فى صوت واحد: "إن التأخر عن خدمة الوطن فى هذه الظروف خيانة".

وبعد تفكير ومناقشة كان تقديرهما كالتالي: "عشنا طوال عمرنا نتحدث عن العدالة الاجتماعية ولا ننحاز إلا إلى جانب الفقراء، ولا يمكن أن يكون موقفنا الآن هو إغلاء مصلحتنا الخاصة على المصلحة العامة. فلو فعلنا لكان ذلك خيانة للوطن!".

اتفق الزوجان على ضرورة قبول المنصب، وشجعهما على ذلك أن الفترة الانتقالية المقررة ستكون 6 أشهر فقط، وعندما جاءت مكالمة الفريق أحمد شفيق في الصباح رد "جودة" بارتياح: "يسعدنى من حيث المبدأ الانضمام إلى الحكومة إذا امكن التفاهم حول أمور معينة".

في مقر مجلس الوزراء، اجتمع "عبد الخالق" مع "شفيق" لمناقشة الأمور التي يريد الخبير الاقتصادي طرحها قبل الموافقة رسميا.

كان لديه 4 مطالب، الأول تغيير اسم الوزارة بما يعكس شعارات ثورة يناير، بحيث يكون وزارة التضامن والعدالة الاجتماعية بدلا من وزارة التضامن الاجتماعى. والثاني: حضور اجتماعات مجلس الوزراء بدون رابطة عنق "كرافتة".

المطلب الثالث كان عدم وضع كشك حراسة أمام المنزل: "أنا وزوجتى نسكن فى عمارة لها ثلاثة مداخل وبها عدد كبير من السكان، ولا أريد إزعاج أحد من جيرانى". أما الرابع والأخير فكان رغبته في الذهاب إلى مكتبه عبر مترو الأنفاق لأنه "يتيح لى فرصة التواصل مع الناس مباشرة ومعرفة الأمور التى تشغلهم ورأيهم فيما يجرى فى البلد".

كان طلبات "بخلفية الثورى القادم من ميدان التحرير" كما يصف الخبير الاقتصادي، وكان رد "شفيق" عليها مقنعا، إذ وافق على الثلاثة الأولى، ولم يستطع الموافقة على الأخير نظرا لـ"اعتبارات تتصل بأمن وسلامة الوزراء تستدعى أن ينتقل فى سيارة وأن يرافقه حرس طول الوقت".

وافق جودة عبد الخالق رسميا على الانضمام إلى حكومة أحمد شفيق، وذاع الخبر في أوساط حزبه "التجمع"، ومنه إلى الإعلام، الأمر الذي أثار حالة من الجدل.

يقول: "هناك من الأصدقاء والزملاء من اعتبرها انتحارًا سياسيًا ونهاية غير موفقة لتاريخى السياسى. بل إنهم قالوا إن جودة يبدد رأسماله السياسى". بالإضافة إلى ذلك، داعبه أصدقاؤه قائلين: "مبروك، عدمت عزوبيتك".

أما في "التجمع" فكان الوضع أكثر سخونة، إذ رفض قيادات الحزب قبوله المنصب دون الحصول على موافقة الحزب، لكنه حرص على أن يوضح لهم أن حكومة شفيق ليست ائتلافية، الأمر الذي ينتفي معه ضرورة موافقة الحزب، وبالتالي فإن اشتراكه فيها بشكل شخصي.

جاء يوم حلف اليمين الذي حفل بمفارقات عديدة للخبير الاقتصادي، أولها أنه لم يكن يعرف الميعاد المحدد لذلك، وسارعت شقيقة زوجته إلى إبلاغه أن رئاسة الوزراء تبحث عنه وأنهم ينتظرونه في مقر وزارة الدفاع لحلف اليمين في الرابعة عصر يوم 22 فبراير 2011.

كان أمام جودة عبد الخالق ساعات قليلة ليتهيأ لحلف اليمين. بحث عن السيارة فوجد أن زوجته الدكتورة كريمة كُريم أخذتها لقضاء عدة مشاوير، فاضطر إلى أن يستقل سيارة أجرة "تاكسي" للوصول إلى مقر وزارة الدفاع.

مشهد الذهاب إلى حلف اليمين كان طريفًا، وربما جسّده بتفاصيل مشابهة الفنان عادل إمام في مسلسل "عفاريت عدلي علام" بعد سنوات عام 2017.

يروي الدكتور جودة: "عند وصولى إلى البوابة العمومية لوزارة الدفاع أن سألنى الحارس عما أريد، فقلت إننى فلان وجئت لحلف اليمين مع الوزارة الجديدة. فانتفض سائق التاكسى بعد أن عرف هوية الراكب. ولم يستطع ضابط أمن البوابة، رغم محاولته تمالك نفسه بحكم وظيفته، أن يخفي دهشته بعد أن أخبرته من أنا".

عند لحظة حلف اليمين، قرر "جودة" ألا يقرأ اليمين الدستورية من ورقة في يده، كما هو معتاد، ما أثار استنكار زملائه من الوزراء الجدد، لكنه أصر على فكرته، ونفذها بالفعل، حسبما يظهر أيضا من اللقطات التلفزيونية لحلف اليمين آنذاك، إذ تقدم أمام المشير محمد حسين طنطاوي، رئيس المجلس العكسري، وقرأ دون ورقة، وربما يتلاحظ هنا دهشة وتخوف الفريق أحمد شفيق والدكتور يحيى الجمل على يسار الصورة.

فى أول اجتماع لمجلس الوزراء الجديد، كان على جودة أن يواجه ملاحظة مدير المراسم الذي لفت نظره إلى عدم ارتداء "الكرافتة"، وفق الاتفاق الأول مع "شفيق"، لكن الوزير خرج من الموقف بتجاهل الملاحظة فلم يفاتحه فيها أحد من المراسم بعد ذلك.

يتذكر "عبد الخالق" هنا موقفا نفهم منه رفضه القديم لارتداء رابطة عنق. يروي: "عندما تم تعيينى معيدا بكلية الاقتصاد استدعانى الدكتور زكى شافعى، عميد الكلية إلى مكتبه وكان ذلك فى شهر يولية تقريبا. فسألنى إن كان هناك تغير فى حياتى. فقلت أنني أصبحت معيدا. قال: "لماذا إذن لا تلبس بدلة وكرافتة" أجبت أستاذى على الفور متسائلا: "هل تريد منى عملا أم منظرة؟ الجو حار كما ترى سيادتك وإذا لبست الكرافتة مضطرا يضايقنى الجو الخانق ولا أستطيع أن أعمل بكفاءة. فماذا تختار: الكرافتة أم الشغل؟". بعدها أبدى الدكتور زكى شافعى مرونة كافية، وصرف النظر عن موضوع الكرافتة".

دقت ساعة العمل إذن، وكان على جودة عبد الخالق أن يتعرف سريعا على دولاب وزارته، التي تشمل وزارتين فى حقيبة واحدة، هما التموين والشؤون الاجتماعية.

يقول: "صحيح أننى أشعر جيدا بآلام الناس وآمالهم، لكنى لا أعرف خلفيات الوزارة التى توليتها، ولا هيكلها الإدارى، ولا القوانين واللوائح التى تحكم عملها، فقد انتقلت كأستاذ للاقتصاد فجأة من الجامعة إلى الوزارة، مرورا بميدان التحرير ولم أعمل يوما واحدا فى السلطة باستثناء فترة قصيرة قمت فيها بمهمة مستشار لوزارة الاقتصاد".

"كانت المهمة صعبة، والإعلام يلاحقنى"، يضيف "عبد الخالق"، مستعرضا أبرز الملفات التي كانت تنتظره: "الفساد، المستشارين، البوتاجاز، قانون الجمعيات الأهلية، ملف القمح، مطالب غرفة أصحاب المخابز، وفى الخلفية كان هناك الحراك الثورى فى ميدان التحرير على بعد خطوات من مكتبى فى ديوان عام وزارة التموين".

كان الوزير اليساري ينتقل بالتناوب بين مكتبين، الأول فى العجوزة حيث وزارة الشؤون، والثاني فى شارع قصر العينى حيث مقر وزارة التموين، لذلك فإنه أطلق عليهما من باب الفكاهة لقبي "السيدة" و"وسيدنا الحسين".

يروي الوزير الأسبق كواليس أول يوم له في وزارة التموين، عندما دخلت عليه مديرة المكتب تحمل رصة أوراق كبيرة مطلوب توقيعه عليها، الجزء الأكبر منها كان طلبات استخراج بطاقات تموينية.

يعلق: "لم أستطع إخفاء اندهاشى، فسألتها «هل مطلوب من الوزير أن يمهر بتوقيعه الكريم طلبات الناس فى كل مكان فى مصر للحصول على حقهم المشروع فى بطاقة تموينية؟»، أجابت مديرة المكتب بأن هذا هو المتبع، وأن سلفى فى الوزارة الدكتور على المصيلحى كثيرا ما كان يبقى فى المكتب حتى منتصف الليل لتوقيع جميع طلبات المواطنين باستخراج بطاقات تموينية. أصابنى ذهول شديد، وأشفقت على نفسى من مصير يمكن أن تسحبنى فيه دوامة البيروقراطية، فلا أستطيع عمل أى شىء ذى قيمة".

استدعى الوزير المسشار القانوني وطلب مشروع قانون بنقل سلطة استخراج بطاقات التموين إلى مديرى المديريات باعتماد طلبات المواطنين وتحت مسؤوليتهم وطبقا للقواعد العامة الموضوعة من قبل الوزارة للاستحقاق، وكان هذا القرار الوزارى رقم 23 لسنة 2011.

إنسانيًا، كان جودة عبد الخالق يخشى أن تغريه السلطة، إذ كان لقب "معالى الوزير" يزعجه كثيرا، بل وتخيفه وهو القادم من صفوف المعارضة عبر ميدان التحرير.

يقول: "كان أحد أكبر مخاوفى أن أتغير بمرور الوقت، بحيث تصبح كل هذه التفخيمات أشياء معتادة وأعتبرها من ضروريات الحياة. عندئذ سيصعب علىّ اتخاذ الموقف الصحيح".