كِبرا نَجَست.. النص الذي أسس للهوية الإثيوبية وربط الطموحات الإمبراطورية بالكتاب المقدس
اشتهر الشعب اليهودي بزعم أنهم "شعب الله المختار"، ولكن ثمة حالة أخرى تشير إلى مزاعم مماثلة، ولكنها ليست على أرض فلسطين، وإنما في منطقة القرن الأفريقي؛ ففي قلب التاريخ الإثيوبي، يبرز نص كِبرا نَجَست أو "مجد الملوك" كمرجع أساسي لا يمكن تجاهله.
هذا النص الديني المكتوب بالجعزية في القرن الرابع عشر لم يكن مجرد وثيقة دينية، بل أداة سياسية ربطت الهوية الوطنية الإثيوبية مباشرة بالسلالة الملكية والسرد التوراتي، وكرّست مفهوم "الشعب المختار" الذي يتجذر في العقيدة والسلطة في آن واحد.
أصل الأسطورة ورواية منليك الأول
يروي نص كِبرا نَجَست أن ملكة سبأ، التي يُطلق عليها في النص اسم ماكِدا، زارت الملك سليمان في القدس وأُعجبت بحكمته وبعظمة حكمه، ثم أنجبت منه ابنًا يُعرف باسم منليك الأول.
بحسب الرواية، عاد منليك إلى إثيوبيا وهو يحمل تابوت العهد، ليؤسس بذلك السلالة السليمانية التي حكمت البلاد لقرون طويلة، وهذا الربط بين العهد الإلهي والسلطة الملكية منح ملوك إثيوبيا قاعدة دينية صلبة لتأكيد شرعيتهم، وجعل من التاج الإثيوبي رمزًا ليس للسلطة السياسية فحسب، بل للرباط الروحي مع الكتاب المقدس.
ووفق لترجمة E.A. Wallis Budge، يُنظر إلى كِبرا نَجَست على أنه "الدليل النهائي على نسب السلالة الإثيوبية من الآباء العبرانيين، وربط ملوكها بالمسيح ابن الله"، ما يعكس المكانة الكبرى التي اكتسبها النص في التراث الإثيوبي، الذي ينظر إلى روما وأديس أبابا كركيزتين لبناء مملكة الرب وفقا لتعاليم المسيحية.
السلطة الدينية والسياسية
لم يكن كِبرا نَجَست مجرد نص ديني أو ملحمة أسطورية، بل كان أداة سياسية قوية استخدمها الملوك الإثيوبيون لتثبيت سلطتهم. فقد قدم النص الإمبراطور الإثيوبي على أنه "مختار من الله" و"أسد يهوذا"، مما أكسبه شرعية دينية لا يُمكن الطعن فيها.
هذا الاستخدام كان واضحًا حتى في عهد آخر ملوك السلالة، هيلا سيلاسي، الذي ارتبطت صورته العامة والرسمية مباشرة بالرمزية الدينية لتأكيد حقه في الحكم.
وكتب موقع TheCollector أن "الملوك الإثيوبيين استمدوا شرعيتهم من نسبهم إلى الملك سليمان، وقد بارك الله سلطتهم بنفسه"، وهو ما يظهر كيف مزجت السلطة السياسية بالدين لتصبح العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة مسكونة بالشرعية الإلهية.
الهوية الوطنية والرمزية الدينية
كان لكِبرا نَجَست تأثير عميق في تشكيل الهوية الإثيوبية. فقد أعطى النص الإثيوبيين شعورًا بأنهم شعب مختار مرتبط بالكتاب المقدس مباشرة، وأن لهم جذورًا توراتية تميزهم عن الشعوب الأخرى في المنطقة.
كما أسهم النص في ترسيخ فكرة أن إثيوبيا ليست مجرد دولة عادية، بل حافظة لتابوت العهد الإلهي، وهو ما عزز مكانتها الروحية ضمن المسيحية الشرقية وأتاح للسلطة السياسية استغلال البعد الديني لتثبيت حكم السلالة السليمانية.
وبحسب موسوعة تاريخ العالم، World History Encyclopedia، حكمت السلالة السليمانية إثيوبيا من القرن الثالث عشر حتى القرن العشرين، وكان كِبرا نَجَست المرجع الأساسي الذي منحها الشرعية على مر القرون.
النص لم يكن مجرد رواية دينية، بل أداة لصياغة السياسة وربطها بالأسطورة، ليصبح التاريخ الإثيوبي مرتبطًا بالكتاب المقدس بطريقة مباشرة وفريدة.
استمرار تأثير النص في العصر الحديث
وحتى في الأوقات المعاصرة، يظل كِبرا نَجَست حاضرًا في الخطاب السياسي الإثيوبي. فقد أشار رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد في مناسبات متعددة إلى "الحق التاريخي" لإثيوبيا في البحر الأحمر، مستندًا إلى فكرة أن الشعب الإثيوبي مرتبط بالملك سليمان وملكة سبأ، وأن له جذورًا توراتية تمنحه مكانة خاصة في المنطقة.
يعكس هذا الاستخدام المعاصر استمرار تأثير النص في تشكيل الهوية الإثيوبية، ويظهر كيف أن الأساطير القديمة لا تزال تعمل كأدوات سياسية وثقافية قوية حتى اليوم.
مقارنة مع نصوص أسطورية أخرى
يمكن مقارنة كِبرا نَجَست ببعض الأساطير المؤسسة في العالم، حيث تنسب القبائل نفسها إلى أنبياء أو شخصيات توراتية لتأكيد الشرعية والهوية. لكن ما يميز النص الإثيوبي أنه مكتوب رسميًا وموثق بالجعزية، واستُخدم كمرجع سلطوي عبر قرون طويلة، مما جعله أكثر قوة في تثبيت السلطة وربط الهوية الوطنية بالدين. وهذا يوضح كيف يمكن للأساطير أن تتحول إلى أدوات سياسية دائمة المفعول عندما يتم تدوينها واستغلالها بشكل رسمي.
الأبعاد التاريخية والتحليلية
على الرغم من أن المؤرخين يشككون في صحة الرواية التاريخية لكِبرا نَجَست، فإن تأثيرها على التاريخ الإثيوبي والسياسة لا يمكن إنكاره.
النص ساعد في ترسيخ مفهوم السلالة الملكية المختارة، وربط الحكم بالإرث الديني والروحي. كما أسهم في تعزيز مكانة إثيوبيا في المنطقة على المستويات الدينية والسياسية، وجعل من البلاد عنصرًا محوريًا في سرديات التاريخ التوراتي المسيحي.
إضافة إلى ذلك، فإن النص أعطى الإثيوبيين إطارًا للهوية الوطنية متفردًا، حيث اختلطت الأسطورة بالواقع السياسي، وباتت السلالة الحاكمة رمزًا للوحدة الوطنية والحفاظ على التقاليد الدينية. حتى بعد سقوط السلالة في عام 1974، لا يزال كِبرا نَجَست حاضرًا في الثقافة والوعي الوطني، مستحضرًا في التعليم، والطقوس الدينية، والخطاب السياسي، مما يوضح مدى عمق تأثير النص على المجتمع الإثيوبي.
ويمكن القول إن صلوات "كِبرا نَجَست" ليست مجرد نص ديني أو رواية أسطورية، بل ملحمة سياسية–دينية أسست للهوية الإثيوبية وربطت الشعب مباشرة بسليمان وملكة سبأ.
وبينما يشكك المؤرخون في دقة الرواية التاريخية، يبقى النص حاضرًا بقوة في الوعي الإثيوبي، مستحضرًا في السياسة والثقافة والهوية الوطنية حتى اليوم.
لقد نجح النص في دمج الأسطورة بالواقع السياسي، ليصبح أداة فعالة لتثبيت السلطة والطموحات الوطنية والدينية في آن واحد، ويظل شاهدًا على قدرة الكلمات والرموز على تشكيل الأمة وصياغة طموحاتها على مر القرون.