قصة نجاح أسطورية.. كيف أثر أحمد عدوية في المجتمع المصري؟
شيعت ظهر اليوم جنازة المطرب الشعبي الأشهر والأكثر تأثيرا في الغناء الشعبي، الفنان أحمد عدوية، والذي يعد واحدًا من أبرز الأسماء التي جسّدت الروح الشعبية المصرية بأسلوب لا يُنسى، وترك بصمة مؤثرة ومبهجة بصوته وشخصيته المتفردة، فجمع بين قلوب البسطاء واحترام النخبة الفنية والثقافية، ليصبح رمزًا خالدًا للأغنية الشعبية في مصر والعالم العربي.
بدأ أحمد عدوية مسيرته الفنية من شارع محمد علي، حيث كان يغني في الأفراح والحفلات الشعبية، ليكتسب شهرة كبيرة بفضل موهبته الفريدة وشخصيته البسيطة، وجاءت انطلاقته الحقيقية مع أغنية "السح الدح إمبو"، التي أصبحت علامة فارقة في مسيرته وحوّلت اسمه إلى أيقونة في عالم الفن الشعبي.
عدوية لم يكن مجرد مطرب شعبي، بل حالة فنية متكاملة، بألحان مبهجة، وكلمات بسيطة، عبّرت عن نبض الشارع المصري، أصبح قريبًا من الجمهور، فمن ينسي أغنيات خالدة مثل "زحمة يا دنيا زحمة" و"سلامتها أم حسن" على سبيل المثال.
فمنذ ظهوره في أوائل السبعينيات، تنقل عدوية بين أفراح القاهرة وأزقتها، إلى أن وصل عام 1972 إلى قمة الساحة الطربية الشعبية، بفهمه للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية.
نقطة تحول
جاءت نقطة التحول الكبرى عندما لفت انتباه أصحاب الطبقات العليا من خلال حفلاته، ومنها حفلة عيد زواج المطربة شريفة فاضل، في تلك الحفلة، تواجد أحد أصحاب كازينوهات القاهرة الشهيرة (كازينو الأريزونا)، الذي عرض على عدوية فرصة الغناء في كازينو الطبقات الراقية.
هناك، استطاع عدوية أن يُسجل أسطوانات لشركة "صوت الحب" تضمنت أغانيه الشهيرة مثل "السح الدح إمبو"، "زحمة يا دنيا زحمة"، و"سيب وأنا أسيب"، هذه الأغاني لم تجذب فقط جمهور الطبقة الجديدة، بل وصلت إلى المثقفين والنخبة الأدبية الذين وجدوا في عدوية صوتًا صادقًا يعبر عن التحولات التي تعيشها مصر.
نجيب محفوظ وثناء النخبة على عدوية
كان الأديب العالمي الراحل نجيب محفوظ من أبرز المعجبين بفن عدوية، وذكر في حوار مع الإعلامي الراحل مفيد فوزي أنه كان "المسموع الأول" بين الناس لفترة طويلة، وصف محفوظ صوت عدوية بأنه "خشن لا يخلو من الحلاوة" وأشاد بأغنيته "سيب وأنا أسيب" التي وجد فيها مغزى عميقًا رغم بساطة كلماتها.
لم يكن نجيب محفوظ وحده؛ بل كتب كبار الشعراء كلمات خصيصًا لعدوية، مثل صلاح جاهين (أغنية "مجنون")، عبد الرحمن الأبنودي، مأمون الشناوي، سمير الطاير، كما لحن له عمالقة الموسيقى، مثل، بليغ حمدي، سيد مكاوي، كمال الطويل، عمار الشريعي.
أيضا كان لعلاقة عدوية مع نجوم الفن مكانة خاصة، خصوصًا صداقته بالعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، فقد عُرف عن عبد الحليم إعجابه الشديد بعدوية وفنه، حتى أنه غنى معه أغنية "السح الدح إمبو" في إحدى المناسبات، مما أشعل الحفل وترك انطباعًا كبيرًا لدى الحضور.
وتحدث عدوية في أكثر من مناسبة عن المواقف التي جمعته بعبد الحليم، الذي كان يدعوه للغناء في منزله أمام ضيوفه من النخبة المثقفة والسياسية، هذه العلاقة كانت شهادة على تقدير النخبة لفن عدوية، الذي جمع بين الشعبية والجماهيرية من جهة، واحترام النخبة من جهة أخرى.
ونجح أحمد عدوية في تقديم فن شعبي جذب البسطاء والنخبة على حد سواء، حيث عبّرت كلماته عن هموم وآمال رجل الشارع، ومع ذلك، كانت له مكانة خاصة لدى الطبقات المثقفة التي رأت فيه نموذجًا فنيًا يجمع بين البساطة والعمق.
الأزمة الأكبر في مسيرته ودعم عائلته
رغم النجاح الكبير، واجه عدوية أزمات قاسية أثّرت على مسيرته الفنية وحياته الشخصية، ففي أوائل التسعينيات، تعرض لحادثة مروعة أثناء سهرة في أحد فنادق القاهرة، حيث أُعطي جرعة زائدة من المخدرات، ما تسبب في غيبوبة طويلة وترك آثارًا جسدية ونفسية تلافق فيما بعد.
الحادثة أدت إلى شائعات واسعة، أبرزها تعرّضه لعملية إخصاء متعمدة على يد أحد أفراد العائلات الثرية بالخليج، وهي شائعات نفى صحتها مرارًا هو وزوجته.
رغم محنته الصحية التي تسببت في شلل جزئي وصعوبات في النطق، أظهر عدوية شجاعة كبيرة وبدأ يعود تدريجيًا إلى الأضواء عبر حفلات صغيرة وبرامج تلفزيونية.
كانت الحياة الأسرية لعدوية مليئة بالحب والوفاء، حيث شكلت زوجته ونيسة أحمد عاطف دعمًا كبيرًا له خلال أزماته الصحية، ظلت بجواره في أحلك الظروف، وخاصة بعد الحادثة الشهيرة في التسعينيات، حيث كرّست حياتها لدعمه والوقوف إلى جانبه.

كانت قصة حبهما مثالًا للوفاء؛ إذ ظلت ونيسة بجواره حتى وفاتها في مايو الماضي، من شدة تعلقه بها، أخفت العائلة خبر وفاتها عنه لفترة خوفًا على حالته الصحية، وأخبروه أنها مسافرة في إجازة مع الأصدقاء.
ابنهما محمد عدوية سار على خطى والده في مجال الغناء، وكان دائمًا إلى جانبه، حيث شاركه في أغنيات ناجحة مثل "المولد".
محطات العودة والبصمات الفنية الأخيرة
من أبرز محطات عودته أغنية "الناس الرايقة" الدويتو الذي قدمه مع الفنان اللبناني رامي عياش، التي أعادت تقديمه لجمهور جديد وأكدت استمراره في الفن رغم التحديات.
أيضا من العلامات الفارقة في مسيرته والتي ظهر خلالها بشكل جديد، أغنية "مسافر" التي شارك في غنائها مع المطرب والملحن الشاب أبو، ولاقت الأغنية أنذاك نجاح كبير ورواج انتشار، لما حملته من رسالة صادقة مخلصة في إطار فني، موجهة للشباب الذي يسعى لمغادرة بلده والهجرة إلى الخارج، وتظل هذه الأغنية إحدى أيقونات الأغاني التي تحمل رسالة في اطار فني جاذب.
الأغنية صنعت آنذاك خصيصا لبرنامج "الفرنجة" الذي قدمه الثلاثي أحمد فهمي وشيكو وهشام ماجد، واستمر لمدة 4 مواسم تم تصويرها جميعا خارج مصر، وبين عدة دول أوروبية، لاقى نجاحا كبيرا، وأضافت له الأغنية انتشار وجمهور جديد.
الشكل الذي قدمت به الأغنية جاء في إطار إنساني عاطفي بين أب وابنه، في حوار حول جدوى فكرة الهجرة للخارج، وهو ما جعل الأغنية مناسبة لكافة الأزمنة، كما وصفها الراحل باحدى الحوارات: "عملت أغنية تعيش".
السينما
لم يقتصر نجاح عدوية على الغناء؛ فقد شارك في السينما بأكثر من 27 فيلمًا، تنوعت بين التمثيل والغناء، وفي حقبة زمنية أصبحت مشاركاته السينمائية جزءًا من مسيرة فنية متعددة الأبعاد، حيث كانت أغانيه وسيلة لربط الأفلام بجمهور واسع، لما يتمتع به من حب وتقدير شعبي.
من أبرز أصدقائه من النجوم في عالم السينما، عادل إمام، الراحل سمير غانم، وله معهم حكايات وأعمال متعددة، فكانا جميعا يعتبرونه تميمة حظ أ تميمة نجاح لأعمالهم.
آخر ما قدمه عدوية
كان آخر ظهور للفنان الراحل أحمد عدوية، في شهر يوليو الماضي، بحفلة غنائية كبيرة جمعته بنجله المطرب محمد عدوية، وأطربا حينها الجمهور بمجموعة كبيرة من أغانيه المميزة، التي تفاعل معها الجمهور، في شبين الكوم، ورفع شعار كامل العدد.
وكانت آخر أغنية للمطرب الشعبى والفنان أحمد عدوية “على وضعنا”، وهي من كلمات أمير شيكو، وتوزيع ديزل، وألحان ديزل وعبدو الصغير، والكليب من إخراج حسام الحسيني، وشاركه في الغناء نجله محمد والفنان محمد رمضان.

ويظل أحمد عدوية رمزًا للأغنية الشعبية التي تعبر عن التغيرات الاجتماعية، واستمر إرثه الفني عبر أجيال متعددة، غنّى للمواطن، أطرب للنخبة، وألهم المثقفين، ليصبح علامة فارقة في تاريخ الموسيقى المصرية.
بوفاته، فقدت الساحة الفنية رمزًا لن يتكرر، لكن صوته سيبقى خالدًا في ذاكرة المصريين، يعبر عن عصر كامل من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.