من داخل اقتصاد التجويع الإسرائيلي: كيف تحولت المجاعة في غزة إلى أداة سياسية واقتصادية؟
في قلب الكارثة الإنسانية التي تضرب قطاع غزة وتعصف بحياة عشرات الآلاف من المدنيين، لا تقف المجاعة بوصفها أثرًا جانبيًا للحرب أو نتيجة عارضة للحصار، بل تتكشف بوصفها سياسة مدروسة ذات أبعاد سياسية واقتصادية عميقة. فالجوع الذي يفتك بمئات الآلاف من المدنيين لم ينشأ صدفة، ولم يكن حصيلة انهيار تلقائي لسلاسل الإمداد، بل تشكّل عبر منظومة معقدة من القيود والتحكم في الغذاء والطاقة والدواء، حوّلت الاحتياجات الأساسية إلى أدوات ضغط، والمعاناة الإنسانية إلى ورقة تفاوض وربح في آن واحد.
وأكد تحقيق لموقع ميدل إيست مونيتور على توصيف ما يجري في غزة على أنه نموذج واضح لاستخدام التجويع كسلاح. هذه التحقيق لا يكتفي برصد المشاهد الصادمة، بل يكشف الآليات التي جعلت من الجوع اقتصادًا قائمًا بذاته، ومن السوق السوداء جزءًا عضويًا من منظومة الحصار.
هندسة التجويع كسياسة ممنهجة
ويشير تحقيق ميدل إيست مونيتور إلى أن إسرائيل اعتمدت سياسة تقوم على التحكم الدقيق في تدفق السلع، لا عبر المنع المطلق فقط، بل عبر السماح الجزئي والمدروس. فقد جرى إدخال الغذاء والدواء والوقود بكميات محدودة للغاية، ومن خلال قنوات ووسطاء بعينهم، بما يضمن بقاء مستوى الندرة مرتفعًا واستمرار الأزمة دون الوصول إلى الانهيار الكامل الذي قد يفرض تدخلًا دوليًا حاسمًا.
هذا النمط من التحكم لم يخلق نقصًا مؤقتًا، بل أسّس لحالة ندرة دائمة. ومع مرور الوقت، تحوّل الحصول على الخبز أو الوقود إلى معركة يومية، وارتفعت الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة، بينما تآكلت قدرة السكان على التكيّف.
في السياق نفسه، رصد تقرير بي بي إس نيوز أور كيف أدى قطع الإمدادات المتكرر إلى تضاعف أسعار المواد الغذائية الأساسية مرات عدة، حتى أصبحت السلع الأولية خارج متناول الغالبية الساحقة من الأسر. وأوضح التقرير أن سكان غزة باتوا يعتمدون بشكل شبه كامل على المساعدات الإنسانية، في وقت يتناقص فيه المخزون بوتيرة أسرع من دخول الشاحنات.
التلاعب بالأسعار
لم تتوقف سياسة التجويع عند حدود منع السلع أو تقليصها، بل امتدت لتشمل التلاعب المباشر بالأسعار، بما حوّل الجوع إلى سوق مربحة. فقد كشفت تحقيقات صحفية غربية عن مجموعة من الأدوات المستخدمة لإدارة الأزمة اقتصاديًا:
أولًا، جرى التحكم في الكميات عبر إدخال شحنات صغيرة لا تلبي سوى جزء ضئيل من الاحتياجات، ما حافظ على حالة الطلب المرتفع والعرض الشحيح.
ثانيًا، فُرضت تكاليف إضافية على النقل والتخزين والرسوم، الأمر الذي ضاعف الأسعار قبل وصول السلع إلى المستهلك النهائي.
ثالثًا، مورست انتقائية واضحة في نوعية السلع المسموح بدخولها، حيث سُمح بمواد أقل أهمية، بينما مُنعت أو قُيّدت مواد حيوية مثل الطحين والوقود.
ورابعًا، اشتد الضغط في فترات حساسة، كفصل الشتاء أو المواسم الدينية، حين ترتفع الحاجة إلى الغذاء والطاقة، ما زاد من وطأة الأزمة.
وفي تحليل لافت، أكدت مجلة ذا كونفرسيشن أن الأسعار تمثل المؤشر الأكثر وضوحًا على تحقق المجاعة، مشيرة إلى أن التضخم الغذائي في غزة لا يدمّر الحاضر فقط، بل يعيد تشكيل المجتمع على المدى الطويل، عبر إضعاف الأجيال القادمة جسديًا واقتصاديًا.
الأبعاد الإنسانية والاقتصادية المتداخلة
ونقلت بلومبرج عن تقارير أممية أن حصص الغذاء التي توزعها منظمات الإغاثة خُفضت إلى النصف بسبب القيود المفروضة، ما يعني أن الفرد في غزة يحصل اليوم على نصف ما كان يتلقاه سابقًا.
وأفاد التقرير بأن كثيرا من العائلات باتت تعيش على وجبة واحدة يوميا، في حين ظلت المساعدات الغذائية متكدسة على المعابر، عاجزة عن الدخول بفعل العراقيل الإدارية والأمنية.
هذا الوضع لم يخلق فقط أزمة إنسانية، بل أنتج اقتصادًا مشوهًا، تتركز فيه الأرباح بيد قلة قادرة على الوصول إلى السلع النادرة أو التحكم في توزيعها، بينما انهارت القدرة الشرائية لغالبية السكان.
ووفقًا لميدل إيست مونيتور، ارتبطت المجاعة بزيادة حالات الوفاة الناتجة عن سوء التغذية والأمراض، ما يؤكد أن الأزمة ليست طبيعية ولا عابرة، بل نتيجة مباشرة لسياسات الحصار والتحكم.
ردود الفعل الدولية وحدودها
على المستوى الدولي، وصفت الأمم المتحدة الوضع في غزة بأنه “كارثة إنسانية مصطنعة”، مؤكدة أن منع الغذاء والدواء والوقود يرقى إلى استخدام التجويع كسلاح حرب. ودعا مسؤولوها إلى فتح ممرات إنسانية دائمة، محذرين من أن استمرار الوضع الحالي سيؤدي إلى انهيار شامل لا يمكن احتواؤه.
أعرب الاتحاد الأوروبي، من جانبه، عن قلقه من أن سياسات الحصار تقوض أي أفق لتسوية سياسية، مطالبًا بتسهيل دخول المساعدات دون شروط. في المقابل، شددت منظمات حقوقية دولية، مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، على أن التلاعب بالأسعار وقيود الإمدادات يشكلان انتهاكًا واضحًا للقانون الدولي الإنساني، ودعت إلى محاسبة المسؤولين عن تحويل المجاعة إلى أداة سياسية واقتصادية.
البعد السياسي: إخضاع عبر الجوع
وشددت التقارير الغربية على أن سياسة التجويع لم تُستخدم فقط لتحقيق مكاسب اقتصادية، بل كوسيلة ضغط جماعي تهدف إلى إخضاع سكان غزة سياسيًا. فالجوع، في هذا السياق، يتحول إلى أداة لإضعاف المجتمع من الداخل، ودفعه إلى القبول بترتيبات أمنية وسياسية مفروضة.
وفي الوقت الذي تتصاعد فيه الانتقادات داخل واشنطن وبعض العواصم الأوروبية، تبدو القدرة على وقف هذه الممارسات محدودة، ما يعزز الانطباع بأن المجاعة أصبحت جزءًا من معادلة الصراع، وليست مجرد نتيجة له.
وتجمع وسائل الإعلام الغربية، من ميدل إيست مونيتور إلى بلومبرج وذا كونفرسيشن وبي بي إس نيوز أور، على أن المجاعة في غزة ليست كارثة إنسانية فحسب، بل سياسة ممنهجة تقوم على التحكم في الإمدادات والتلاعب بالأسعار.
الأرقام والوقائع تشير إلى أن السكان يعيشون على وجبة واحدة يوميًا، وأن حصص الغذاء خُفضت إلى النصف، بينما تضاعفت أسعار السلع الأساسية مرات عدة.