وسط مطالب باستردادها.. الجدل يتجدد حول قانونية خروج رأس نفرتيتي من مصر
أثير مجددًا جدل كبير حول قانونية خروج الأثر الشهير، رأس نفرتيتي، الأيقونة العالمية للجمال المصري القديم، من مصر، وسط موجة جديدة من مطالبات الأثريين بضرورة استعادته ليكون ضمن معروضات المتحف المصري الكبير، الذي يُعتبر أكبر مشروع ثقافي في العالم مخصص للحضارة المصرية القديمة، وفقًا لصحيفة الإندبدنت البريطانية.
وتناول مقال بعنوان "اكتشاف تمثال نفرتيتي والنقاش الممتد منذ قرن حول ملكيته"، صادر عن مجلة سميثسونيان، التابعة لمؤسسة متحف سميثسونيان الأمريكية، تفاصيل التنقيب في تل العمارنة والجدل القانوني حول التمثال.
ويرى أثريون أن اللحظة الراهنة مناسبة لإعادة طرح الملف على المستوى الرسمي مع افتتاح المتحف المصري الكبير، معتبرين أن غياب رأس نفرتيتي عن قاعات العرض غير مقبول.
ويُعد تمثال نفرتيتي النصفي، الذي يبلغ ارتفاعه نحو 50 سنتيمترًا، من أدق الأعمال النحتية في مصر القديمة، ويظهر ملامح الملكة بتفاصيل دقيقة تعكس مهارة الفنان المصري القديم، ويعتبر تحفة لا مثيل لها.
عُثر على رأس نفرتيتي عام 1912 في تل العمارنة، العاصمة التي أنشأها أخناتون في القرن الرابع عشر قبل الميلاد لتكون مركزًا لعبادة الإله الواحد آتون، وذلك في ورشة النحات تحتمس، على يد البعثة الألمانية برئاسة عالم المصريات لودفيج بورشاردت.
وخرج التمثال النصفي من مصر في سبتمبر 1913، أي قبل 112 عامًا، ليستقر في متحف برلين حتى اليوم، حيث أصبح التمثال الأشهر في ألمانيا ورمزًا للجمال الخالد.
وفي يوم السادس من ديسمبر عام 1912، دوّن لودفيج بورشاردت في المذكرات وصفًا مفعمًا بالإعجاب للتمثال الملوّن بالحجم الطبيعي للملكة، بارتفاع 47 سنتيمترًا، معتبرًا العمل "استثنائي إلى حدٍّ يجعل الوصف عديم الجدوى.. لا بدّ لك لكي تدرك ما أقصد أن تراه بعينيك".
هذا الاكتشاف المذهل فتح بابًا لصراع طويل بين برلين والقاهرة حول قطعة فنية صارت رمزًا للجمال والهوية والنهب الاستعماري في آنٍ واحد.
الخلاف القائم بين القاهرة وبرلين حول مشروعية خروجه لا يزال قائمًا
الموقف المصري
تؤكد مصر أن رأس نفرتيتي غادر البلاد بطرق غير قانونية، مشيرة إلى أن التمثال خرج من مصر "خلسة" وفقًا لرواية علماء آثار مصريين بارزين، وأنها متمسكة بعودته مرة أخرى إلى بلادها.
الموقف الألماني
في المقابل، تتمسّك مؤسسة التراث الثقافي البروسي (مؤسسة حكومية ألمانية) بأن نقله جرى وفق نظام تقسيم المكتشفات الأثرية الذي كان معمولًا به آنذاك بين بعثات التنقيب والسلطات المصرية، مؤكدة أن التمثال مُنح للجانب الألماني بطريقة قانونية، وأنها تحافظ على تواصل مستمر مع وزارة السياحة والآثار المصرية.
الأدلة المصرية: "احتيال موثق" وخرق متعمد لقوانين القسمة والآثار
يؤكد أثريون مصريون أن لديهم أدلة تثبت أن رأس نفرتيتي خرج بطريقة غير قانونية، إلا أنهم يشيرون إلى أن القاهرة "لم تتقدم" حتى الآن بطلب رسمي لاستعادته، وأن ما يُثار حول هذه المطالبات يندرج في إطار الاستهلاك الإعلامي أو المبادرات الفردية للاستعراض، من دون وجود أي تحرك فعلي.
إخفاء القيمة
وذكرت الباحثة في علم المصريات مونيكا حنا، في مقال علمي نُشر عام 2023 في المجلة الدولية للملكية الثقافية بجامعة كامبريدج، أن عالم الآثار الألماني لودفيغ بورشاردت أخفى حقيقة التمثال، الذي عثر عليه في ورشة النحات تحتمس بتل العمارنة، وسجّله باسم "أميرة ملكية مطلية" على رغم علمه بهويته وقيمته الفنية الاستثنائية.
مخالفة متعمدة
وصفت مونيكا حنا تصرف العالم الألمان بأنه "مخالفة متعمدة" للقوانين المصرية التي كانت تمنح الدولة حق الاحتفاظ بالقطع الفريدة، واعتبرته احتيالًا موثقًا في مراسلات استعادة التمثال عام 1946.
وتشير وثائق لاحقة إلى أن عالم الآثار لودفيغ بورشاردت قدم للمفتشين المصريين صورة غير واضحة للتمثال، وعُرض في إضاءة خافتة لإخفاء روعته، ليضمن أن يبقى "النصب المذهل" في الجانب الألماني من القسمة عام 1913.
نقطة القوة القانونية
يوضح أستاذ الآثار والدراسات المتحفية محمد جمال راشد أن نقطة القوة التي تملكها مصر تتمثل في إثبات التلاعب الذي صاحب عملية القسمة، حيث كان معمولًا به أن توزع المكتشفات بين البعثة الأجنبية والجانب المصري، مع أولوية بقاء القطع الفريدة داخل مصر، لكن رأس نفرتيتي خرج عبر إخفائه أو الإيهام بأنه قطعة عادية، وهي النقطة الجوهرية التي يمكن البناء عليها قانونيًا للمطالبة بالاسترداد، مؤكدًا أن مثل هذه القضايا لا تسقط بالتقادم، لكننا بحاجة إلى خطة حكومية واضحة.
الاتفاقيات الدولية
يعتمد علماء الآثار في مصر على نص المادة 13 (ب) من اتفاقية "اليونسكو" لعام 1970 الخاصة بحظر ومنع استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة، على التزام الدول الأطراف احترام حق الدول الأخرى في استرداد ممتلكاتها الثقافية التي نُقلت خارج أراضيها بشكل غير قانوني، والعمل على تسهيل الإجراءات اللازمة لإعادتها.
شهدت الجهود المصرية لاستعادة التمثال عدة مراحل ومحاولات دبلوماسية وقانونية، وتزايد الجدل حول طبيعة الطلبات المصرية لاستعادته.
تشير وسائل إعلام محلية إلى أن مصر، بعد الحرب العالمية الثانية، تقدمت بطلب رسمي إلى مجلس الرقابة على الحلفاء المسؤول آنذاك عن الممتلكات الفنية في ألمانيا.
مراسلات مبكرة (1927 - 1929): تظهر الوثائق المحفوظة في دار الوثائق القومية المصرية تسلسلًا من المراسلات الرسمية بين القاهرة والبعثات الألمانية في شأن التمثال، بدأت برسالة مؤرخة في مايو 1927 كتبها رئيس المفوضية الملكية المصرية في برلين، سيف الله يسري باشا، إلى وزارة الخارجية في القاهرة، تلتها رسالة أخرى في نوفمبر 1929 من حسن نشأت باشا الذي خلفه في المنصب.
وكشفت الرسالتان عن سياسة غير معلنة تقضي بأن تظل المفاوضات في نطاق المتخصصين فقط، خوفًا من أن تتحول القضية إلى مسألة سياسية.
مفاوضات المبادلة (1930)
شهد عام 1930 بدء مفاوضات رسمية بين مدير مصلحة الآثار المصرية بيير لاكو وطرف من متحف برلين (هاينريش شافر)، حين اقتُرح مبادلة التمثال بقطعتين أثريتين إحداهما من الدولة القديمة والأخرى تنتمي للدولة الحديثة، لكن الحكومة البروسية رفضت العرض في يونيو 1930.
تدخل أدولف هتلر (1933)
استؤنفت المفاوضات عام 1933، وتمكن الجانب المصري من إقناع الحكومة البروسية بالموافقة على إعادة التمثال لمناسبة عيد ميلاد الملك فؤاد الأول، غير أن القرار أُلغي بعد تدخل أدولف هتلر شخصيًا، الذي وفق وثيقة من قصر عابدين بتاريخ أكتوبر 1933 عبّر عن إعجابه الشديد بنفرتيتي ورفض رحيلها عن برلين، معتبرًا إياها "جوهرة برلين التي لا تُمسّ".
جهود ما بعد الحرب العالمية الثانية (1946)
وجهت اللجنة الأثرية التابعة لوزارة المعارف خطابًا عام 1946 إلى رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي باشا تطلب فيه استعادة التمثال، الذي أرسل في فبراير 1946 رسالة رسمية إلى وزارة الخارجية الأميركية يؤكد فيها أن زوال حكم هتلر أزال العائق الأخير أمام إعادة التمثال إلى موطنه. لكن سلطة الحلفاء في ألمانيا ردت في مارس 1947 بأن اختصاصها يقتصر على الأعمال المنهوبة خلال الحرب فقط.
المطالبات الحديثة
أكد عالم الآثار المصري زاهي حواس إرسال خطابات إلى الحكومة الألمانية تطالب باستعادة رأس نفرتيتي، إلا أن الرد جاء بطلب أن يوقع الوزير على الخطاب. وأكد وزير السياحة والآثار السابق خالد العناني، الذي تولى لاحقًا منصب المدير العام لمنظمة "اليونيسكو"، أن ألمانيا تتمسك برأس نفرتيتي، مؤكدًا تمسك مصر بعودته مرة أخرى إلى بلاده.
مطالب الأثريين للتحرك الرسمي والدبلوماسي واستغلال الحدث الثقافي
يرى الأثريون أن اللحظة الحالية مناسبة للتحرك الجاد، معتبرين أن غياب رأس نفرتيتي عن قاعات المتحف المصري الكبير "غير مقبول" وغير منطقي.
وذكرت الباحثة مونيكا حنا أن تمثال نفرتيتي النصفي يمثل تحولًا في نظرة الغرب إلى التراث المصري، وبدأ يقدّم بوصفه الوريث الشرعي لمصر القديمة من خلال منظومة معرفية تهيمن على عرض التراث داخل المتاحف الغربية، موضحة أن التمثال يكشف تداخل السياسة بالتراث، واستغلال الرموز الأثرية لترسيخ الهيمنة الثقافية، مشيرة إلى أن نفرتيتي من أبرز قضايا نقاش إزالة الاستعمار في علم الآثار.
كما ترى أن رفض ألمانيا لإعادة التمثال لا يرتبط بالشرعية القانونية، بل بالخوف من سابقة تلزمها إعادة آلاف القطع المنقولة خلال الحقبة الاستعمارية، معتبرة استمرار عرضه في برلين تمسكًا بالسيطرة الرمزية على الحضارات الأخرى.
وشدد عضو اتحاد الأثريين المصريين عماد مهدي على ضرورة اتخاذ خطوات أكثر حسمًا، مثل استغلال اهتمام الألمان بالحفائر ووقف البعثات الألمانية في مصر كوسيلة ضغط، مضيفًا أن افتتاح المتحف المصري الكبير يمثل فرصة للتحرك الجاد في ملف استرداد الآثار المصرية من الخارج. واعتبر أن الرأس خرج بخديعة بعدما جرى التعتيم على أهميته، مؤكدًا أنه من أبرز القطع التي يجب أن تكون ضمن العرض المتحفي للمتحف الكبير.
ورصدت مجلة ديرشبيجل تالألمانية الدعوات إلى أن يستخدم المتحف الكبير لإرسال رسائل واضحة، مثل تخصيص فاترينة فارغة لرأس نفرتيتي داخل المتحف مع عرض توثيقي يوضح كيفية خروجه من مصر، لتكون رسالة ضغط للعالم ومحاولة للضغط لاستعادته.
الحاجة لخطة حكومية
أكد أستاذ الآثار والدراسات المتحفية محمد جمال راشد على أحقية مصر في استعادة رأس نفرتيتي، لكنه ربط الأمر بضرورة التحرك الرسمي ووجود خطة حكومية واضحة، مشيرًا إلى أن الحديث عن استرداده يتجدد مع كل حدث ثقافي، وذكر بأن دولًا أفريقية مثل نيجيريا والسنغال نجحت في استعادة قطع أثرية من متاحف أوروبية.
الدبلوماسية المكثفة
دعا العميد السابق لكلية الآثار بجامعة القاهرة محمد حمزة الحداد الدولة إلى التحرك الدبلوماسي المكثف من خلال وزارة الخارجية والمكاتب والملاحق الثقافية والسياحية بالخارج، وبدعم من القيادة السياسية، للمطالبة رسميًا باستعادة رأس نفرتيتي، كما فعلت مصر سابقًا عندما حشدت جهودها لدعم مرشحها للفوز في انتخابات "اليونسكو". وقد تواصل مع مدير عام إدارة الآثار المستردة بوزارة السياحة والآثار، شعبان عبدالجواد، إلا أنه رفض التعليق.
يرى أثريون أن المتحف المصري الكبير يمثل المرحلة الأولى في مسار طويل، يجب أن تتبعها مرحلة ثانية تركز على استعادة الآثار المصرية المهربة، لأنها تكمل صورة الحضارة المصرية عبر عصورها، مؤكدين أن انضمام رأس نفرتيتي إلى مقتنيات المتحف سيشكل إضافة استثنائية، لأنه يمثل رمزًا فنيًا وتاريخيًا فريدًا.
القيمة الاستثنائية
اعتبر محمد حمزة الحداد أن استعادة رأس نفرتيتي ستحدث صدى عالميًا مماثلًا لما أحدثته كنوز توت عنخ آمون، فهي تعد أجمل عمل فني من ناحية الدقة والنحت والإبداع، وتحفة لا مثيل لها.
أكد الأثريون المصريون قدرتهم على حماية رأس نفرتيتي، مشيرين إلى أن مصر أثبتت قدرتها على الحفاظ على القطع الأثرية، مستشهدين بمثال مجموعة توت عنخ آمون التي حُفظت بقيمتها الكاملة.
وشددوا على أن مصر تمتلك الكفاءة والإمكانات اللازمة لعرض القطع الأثرية بالشكل اللائق، وأن المشكلات الفنية موجودة في جميع متاحف العالم، ولديهم معامل حديثة وتقنيات متطورة خصوصًا في المتحف المصري الكبير.
محتويات المتحف المصري الكبير
يضم المتحف بين أروقته أكثر من 5 آلاف قطعة من مجموعة توت عنخ آمون وقناعه المصنوع من الذهب، ويحتضن المتحف مركبي الملك خوفو اللذين نقلا من موقعهما الأصلي إلى المتحف، وتمثال رمسيس الثاني في بهو المدخل، والمسلة المعلقة عند ساحة الدخول، وعمود مرنبتاح.
الدرج العظيم بارتفاع يعادل ستة طوابق يضم 87 قطعة أثرية، وتضم القطع الثقيلة على الدرج العظيم آثارًا من عصر الدولة القديمة، مرورًا بالدولة الوسطى والدولة الحديثة وحتى العصر اليوناني الروماني.
ويضم المتحف 12 قاعة عرض رئيسة صممت لتقديم تجربة متكاملة تجمع بين الأثر والمعرفة والترفيه، يبدأ من المدخل الرئيس الذي يحتضن تمثال رمسيس الثاني وخمس قطع ضخمة، ويقود إلى الدرج العظيم بارتفاع يعادل ستة طوابق.