< الواقع الفوضوي لهدنة غزة
الرئيس نيوز
رئيس التحرير
شيماء جلال

الواقع الفوضوي لهدنة غزة

أحد عناصر حركة حماس
أحد عناصر حركة حماس في قطاع غزة

كانت الحربُ أكثر من حرب، كانت القيامة تمشي على قدمين في أرضٍ ضاقت بالموت، سبعون ألف شهيدٍ فلسطيني، وسُوِّيت غزة بالأرض حتى لم يبقَ فيها ما يُشبه الحياة، على امتداد البصر، مدينة بلا ملامح، وسماء خافتة أُطفئت فيها الأصوات، إلا من همس الركام.

في المقابل، دفعت إسرائيل كلفة باهظة: نحو 500 جندي قُتلوا، ومثلهم جُرحوا، فيما عاش الأسرى الإسرائيليون جحيمًا امتد لأكثر من عامين في الأسر، وسط الجوع والظلام والقصف والعزلة، يترقبون مصيرهم في صمتٍ ثقيل.

الحرب لم تبقَ حبيسة حدود القطاع، تمددت كالنار في الهشيم من غزة إلى لبنان وسوريا، ثم إلى إيران واليمن، حتى بدا الشرق الأوسط كله كأنه يختنق في دخان حربٍ لم يعرف كيف يبدأها، ولا كيف يضع لها نهاية.

في الثالث عشر من أكتوبر، حطّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تل أبيب، ليعلن - بلهجة المنتصر - أن الحرب انتهت، مع إطلاق سراح آخر الأسرى الأحياء من غزة، ليبدأ زمن الرماد.

ومن تل أبيب إلى شرم الشيخ، ظهر ترامب محاطًا بوجوه القادة العرب والغربيين، وشعار السلام في الشرق الأوسط يلمع خلفه، غير أن ما خفي وراء الأضواء كان أثقل من التصفيق، وما سُكت عنه أكثر مما قيل.

سلام بلا خريطة طريق

الفترة القصيرة التي قضاها الرئيس الأمريكي في إسرائيل ومصر كشفت أن السلام الموعود لا يزال فكرة بلا جسد، ووعدًا بلا خريطة طريق، لم يقدّم هو ولا نظراؤه أي تفصيلٍ عن المراحل التالية من خطة النقاط العشرين التي قيل إنها ستضمن الأمن وإعادة الإعمار والاستقرار في القطاع المنهك.

لا جدول زمني، لا آليات تنفيذ، ولا التزامات واضحة؛ فقط وعود معلّقة في هواء الاحتفالات، وحين خمدت التصفيقات، بدا أن الحرب انتهت على الورق، لكنها لا تزال حيّة في الأنقاض، وفي صدورِ من فقدوا كل شيء.

يحمل الاتفاق أكثر مما يُعلن، ويخفي أكثر مما يُكتب؛ فهو استراحة قصيرة في حربٍ طويلة، وهدنة تُقام على أنقاض مدينةٍ جائعة.

توقف القصف، وانسحب بعض جنود الاحتلال، ودخلت شاحنات المساعدات بعد أن أنهكها الانتظار، لكن أهل غزة الذين حفروا قبورهم بأيديهم، يدركون أن الطعام لا يعني الأمان، وأن الهدوء لا يعني السلام.

جاء الاتفاق بملامح إنسانية، لكنه كُتب بلغةٍ سياسية مُلتبسة، لم يقل متى يرحل الاحتلال تمامًا، ولا كيف تُسلَّم البنادق، ولا من يضمن أن البنادق لن تُرفَع مجددًا.

نزع سلاح المقاومة عملية محفوفة بالمخاطر يصعب التحقق منها، هو جوهر اختبارٍ لإرادات متعارضة: إسرائيل التي تريد قطاعًا منزوع المخالب، وحماس التي ترفض أن تعيش بلا أنياب.

نعم، حماس خرجت من الحرب مُنهكة، وهو ما جعل التوصل إلى الاتفاق ممكنًا الآن؛ لكنها لم تُهزم تمامًا.

تعترف إسرائيل ضمنًا بأن الحركة ما زالت قادرة على حشد نحو 10 آلاف مقاتل، بينهم قرابة ألفي عنصر من النخبة، يتحركون في شبكة الأنفاق التي صارت شرايين حياة لمدينةٍ لم تعرف النوم منذ عامين.

وتراقب العواصم العربية اتفاقًا لم تطلبه لكنها لا تملك ترف تجاهله، لم تتقدم أي دولة للمهمة المستحيلة: مراقبة غزة بعد الحرب، فالقوة التي ستوضع هناك قد تتحول إلى رهينة في أول انفجار جديد.

أما الخليج، فينظر إلى الخراب من بعيد، لا يرغب في تمويل إعمارٍ قد يُقصف من جديد، ولا يريد أن يجد نفسه في قلب نزاع لم ينتهِ بعد، فالإعمار يحتاج إلى ضمانات، والضمانات تحتاج إلى ثقة، والثقة غائبة بين كل الأطراف.

يبدو أن الدمار هائل لدرجة أنه لم يتبقَّ ما يُقاتل عليه؛ شيء أسوأ من هيروشيما، وأقرب إلى درسدن حين تحولت رمادًا، ومع ذلك، لم يمرّ هدوء وقف النار بسلام؛ فما أن هَدَأَت المدافع حتى اشتعلت معركة جديدة، هذه المرّة حول من سَيَمسك بملف إدارة غزة بعد الحرب، معركة على الأرض، ومعركة في الظلال.

حرب داخل الحرب

على الأرض، لم تَخِبْ نيران السلاح بعد وقف القتال، عشائر غزّية تقاتل حماس، اشتباكات عنيفة بالبنادق والرصاص أدّت إلى مقتل وإصابة العشرات في يوم واحد.

ما كان يُفترض أن يكون هدنة لالتقاط الأنفاس تحوّل سريعًا إلى ساحة لتصفية الحسابات، وصراع على النفوذ والانتقام، وكأن الحرب لم تغادر الشوارع، بل خلّفت أشكالًا جديدة من الاقتتال الداخلي.

سباق النفوذ والمال

خارج حدود غزة، تقف وجوه أخرى تتقاتل بطُرق مختلفة: سياسيون، مقاولو إعمار، مستشارون أجانب، كلهم يتربصون بجزءٍ من تلك الكعكة التي تُقدّرها الأمم المتحدة بنحو 70 مليار دولار لإعادة إعمار القطاع المدمر، ويسعون إلى كسب الدعم الإقليمي والغربي اللازم لإدارته.

يتذكّر الفلسطينيون في غزة انسحاب إسرائيل عام 2005، وعود بتحويل القطاع إلى سنغافورة الشرق الأوسط انتهت بفراغ أمني كامل، نهب وخطف، وصراعات قبل أن تستقر الأمور لصالح حماس بالحديد والنار.

واليوم، يخشى الناس من تكرار مشاهد الفوضى حين تتنازع الفصائل والعشائر على أملاكٍ ودوائر نفوذٍ لم تعد تُحتمل.

من سيحكم القطاع؟

حماس، رغم التنازلات الشكلية عن السيطرة، تبقى القوّة الأبرز في القطاع، تُمسك بخيوط الميدان وتعيد رسم موازين القوة على طريقتها.

آلاف المقاتلين ينتشرون في الشوارع، وقيادة تأخذ من العلن مسرحًا للردع؛ فالإعدامات الميدانية ضدّ من يُتّهمون بالخيانة أو التعاون مع الاحتلال باتت رسائل سياسية وأمنية في آن: اليد العليا ما زالت لها.

تقول الحركة إنها نشرت 7 آلاف مقاتل منذ وقف إطلاق النار، بينما لا تستطيع أكبر عشيرة في القطاع حشد أكثر من 200 رجل.

الفارق ليس في العدد، بل في البنية: شبكة ولاءات وتحالفات نسجتها حماس خلال عقدين من الحكم، وقدرة على الحركة في مدنٍ محاصرة تعرفها كما يعرف الجسد جراحه.

الانقسام الداخلي

ما جرى عشية الهدنة، حين قتلت عشيرة المجايدة 11 عنصرًا من حماس، لم يكن حادثًا معزولًا؛ بل إنذارًا بأن الانقسام الداخلي لم يُدفن تحت الركام، وأن مرحلة ما بعد الحرب تحمل في طياتها بذور صراعٍ أشد تعقيدًا: بين سلطة مركزية تريد احتكار القوة وميليشياتٍ تبحث عن نصيبٍ من النفوذ.

الخوف يعود

حين تخلّت إسرائيل عن بعض العشائر، سارعت هذه إلى تسليم أسلحتها أو مبايعة المنتصر الأقرب؛ أما الانتقادات التي كانت تتزايد ضد حماس أثناء الحرب، فقد خفتت تحت وطأة الخوف من الانتقام، وعادت القبضة الحديدية لتفرض صمتًا ثقيلًا على مدينة بالكاد تتنفس.

تقول حماس إنها تريد تحقيق أمرين: تأمين توزيع المساعدات في غزة، وملاحقة الميليشيات المدعومة من إسرائيل، والتي وجهت لها إنذارًا نهائيًا لتسليم أسلحتها.

وبالنسبة للقضية الأخيرة، اعتقلت الحركة عددًا من عناصر ما يُعرف بـ"القوات الشعبية"، ميليشيا يقودها رجل العصابات ياسر أبو شباب، يُتهم بتلقي دعم وتسليح مباشر من إسرائيل سمح له بالتحرك بحرية في بعض مناطق غزة خلال الحرب.

وعلى وقع معركة تثبيت الأقدام، شهدت مدينة غزة أعنف مواجهات بين حماس وعائلة دغمش، إحدى أكبر العائلات النافذة التي لطالما قاومت هيمنة الحركة على غزة، أسفرت عن مقتل واعتقال العشرات، وإحراق منازل بأكملها.

لم يبدُ ترامب منزعجًا؛ في فعالية في البيت الأبيض قال إن حماس لا تستطيع نزع سلاحها الآن لأنها بحاجة إلى القضاء على عصابتين شريرتين للغاية، ومع ذلك، أصرّ على أنه إذا لم تتخلَّ الحركة عن سلاحها طواعية، فسينزعُه عنهم، وبأقصى سرعة وعنف ممكنين.

والآن، تبدو غزة عالقة في لحظة انتقال عنيفة؛ سلطة تريد أن تبقى مهما كان الثمن، ومنافسون يسعون إلى اقتطاع نصيبهم بالقوة، ليتحوّل القطاع من ساحة حرب مفتوحة إلى ميدان صراع داخلي حول من يبقى ومن يرحل.

ومثل إسرائيل، لم تذهب حماس أبعد من التوقيع على المرحلة الأولى من خطة ترامب ذات النقاط العشرين للسلام، كل طرف يختبر الآخر، ويُراكم أوراقه، فيما تُترك البنود الجوهرية معلّقة بين الرفض والانتظار.

وفي هذا الصراع، غالبًا ما تصبح الترتيبات المؤقتة دائمة إلى أن يُتفق على المرحلة الثانية، ستستمر حماس في الحكم، حتى ترامب نفسه بدا وكأنه يقبل بذلك، إذ قال خلال رحلته إلى المنطقة: لقد منحنا الحركة الموافقة لفترة من الوقت.

وقد يرى بعض الإسرائيليين أيضًا فائدة في بقاء عدوهم في السيطرة على غزة، كما حدث بعد عام 2007، فكما في السابق، يمكن أن يُقال إن حكم حماس يمنع استئناف العملية السياسية نحو إقامة دولة فلسطينية، كما قد يمنح إسرائيل مبررًا للاستمرار في قصف غزة.

معضلة حماس بين الحكم والإعمار

لكن الحرب بدّلت حسابات حماس، كما بدّلت وجه غزة؛ فالقطاع عام 2007 لم يكن كما اليوم، يومها كان يضجّ بالمدارس والجامعات والمقاهي والفنادق، أما الآن فهو ركام يمتد من الشمال إلى الجنوب، ينتظر من يلملم الجراح.

يدرك قادة الحركة أن البقاء وسط هذا الخراب بلا إعادة إعمار يعني خسارة ما تبقّى من رصيد شعبي، لكنهم يعرفون أيضًا أن أموال الإعمار لن تتدفّق طالما ظلّوا في الحكم.

خلف الأبواب المغلقة، تلوح عواصم خليجية كالسعودية والإمارات بشروطٍ صارمة: لن نضع حجرًا واحدًا في غزة ما دامت حماس تمسك بالمفاتيح.

هذا الرفض لا يترك أمام الحركة إلا خيار التراجع خطوة إلى الخلف، لهذا بدأت حماس تُلمّح إلى استعدادها للتنازل عن السلطة لصالح لجنة فلسطينية تكنوقراطية غير سياسية، تشرف عليها مجلس سلام دولي كما ورد في خطة ترامب.

اتفقت الأطراف: حماس، وإسرائيل، والوسطاء (مصر وقطر) على ما لا يقل عن 14 اسمًا لعضوية هذه اللجنة، التي يُفترض أن تتولى إدارة غزة في المرحلة الانتقالية.

أسماء مطروحة وتوازنات دقيقة

لم تُعلن الأسماء بعد، لكن المتداول يحمل دلالات سياسية واضحة؛ فمن بين المرشحين ماجد أبو رمضان، وزير الصحة السابق في حكومة الرئيس محمود عباس في الضفة الغربية، وهو من غزة ويملك ارتباطات محلية عبر شقيقه الذي يدير غرفة تجارة غزة.

كما طُرح اسم ناصر القدوة، ابن شقيقة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، والذي طُرد من حركة فتح عام 2021 ثم تصالح مع عباس في أكتوبر 2024.

يُقرأ تعيين هؤلاء بمثابة عودة فتح إلى غزة التي أطاحت بها حماس من القطاع عام 2007، ويعكس رغبة الأطراف في اختيار وجوه مقبولة داخليًا وإقليميًا، وربما يمهّد لتمثيل فلسطيني في مجلس السلام الذي تقوده الولايات المتحدة.

وربما لا يزال الرئيس عباس، الذي أثقلته السنوات وأرهقته الانقسامات، يبحث عن دور في المشهد الجديد.

قبل أسابيع فقط، رفض ترامب منحه تأشيرة لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، في إشارة فُهمت حينها كإقصاء متعمّد.

لكن اللقاء العابر في شرم الشيخ غيّر المشهد: مصافحة علنية، وحديث مقتضب أمام الكاميرات، بدا كأنه محاولة لإعادة إدخال عباس إلى المعادلة، ولو في موقع رمزي ضمن ترتيبات ما بعد الحرب.

تأمين نجاح أي إدارة مؤقتة لقطاع غزة مرهون أولًا بالوضع الأمني، الخطة المقترحة تعتمد على تشكيل قوة شرطة فلسطينية جديدة، مدعومة بقوة استقرار دولية، تتولّى مصر تدريبها وستقدّم الجزء الأكبر من عناصرها، وهو ما يضع القاهرة في مركز ثقل بارز في مرحلة ما بعد الحرب.

دور حماس وإمكانية الإخفاق

ويبقى دور حماس حاسمًا في هذا السياق؛ فإذا نجحت القوة الدولية في توفير حاجز أمني فعّال يفصل غزة عن إسرائيل ويُطمئن الفصائل المسلحة، فقد تتماهى الفصائل مع الترتيبات الجديدة.

أما إذا كانت مهمة القوة قائمة أساسًا على نزع سلاح حماس وتفكيك بنيتها العسكرية - بما في ذلك أنفاقها - كما تنص بعض بنود الخطة، فسيكون لدى حماس وحلفائها وسائل كثيرة لإفشالها.

المعادلة تبدو بسيطة من حيث الوصف: لجنة تكنوقراطية، قوة شرطية مدربة، وضمانات دولية، لكن تحويل هذا المخطط إلى واقع آمن ومستقر يتطلب ثقة متبادلة ونتائج سريعة على الأرض، وهما عنصران لا يَسِران بسهولة في غزة بعد حرب طاحنة وترسبات من سنوات حكم متقلبة.

حلول وسط ومقترحات بديلة

وسط هذا الانسداد، طُرحت حلول وسط، عرض بريطاني للمساعدة بخبرة نزع السلاح التي اكتسبتها لندن خلال عملية السلام في إيرلندا الشمالية، بحيث تُسلَّم الأسلحة إلى طرف ثالث غير إسرائيل.

ويُجرى تدريب مقاتلي حماس ودمجهم تدريجيًا في القوة الأمنية الجديدة، بما يضمن بقاء التوازن الداخلي وتفادي انفجار الوضع.

وفي الكواليس، يهمس بعض الوسطاء بأن حماس قد تسعى لإعادة تعريف نفسها سياسيًا، مستعيدة تجربة الجيش الجمهوري الإيرلندي الذي تحوّل إلى حزب سياسي عبر "شين فين"، فهم لا يمكن استبعادهم ببساطة.

يبدو أن الجميع يفاوض من موقع الاضطرار لا القناعة، ترامب يبحث عن إنجاز سياسي يُعيد إليه وهج الرئاسة، وإسرائيل تريد خصمًا يمكن احتواؤه، بينما تحاول حماس النجاة من انهيارٍ شاملٍ دون أن تتخلى عن رايتها، وما بين كل هؤلاء، تبقى غزة - للمرة الألف - حقل تجاربٍ لمشاريع السلام المستحيلة.