السبت 20 أبريل 2024 الموافق 11 شوال 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تقارير

حكايات المصريين مع الأوبئة (5): الماء ينقل "الكوليرا" من مكة للصعيد.. والرشوة تنشر الوباء

الرئيس نيوز

عمدة "موشا" وزّع الماء الملوث على الأهالي.. و40 جلدة عقاب جندي سمح لمواطن بكسر الحجر

طوال تاريخها، عاشت مصر فترات مظلمة مع الأوبئة التي حلّت ضيفا ثقيلا على المصريين، فأشاعت الموت والذُعر وحصت الأوراح بشكل جنوني.

فيروس كورونا المستجد "كوفيد- 19" ليس التجربة الأولى لمصر مع الأوبئة، إذ سبقه الكثير من الجوائح التي تحالفت معها عوامل تخلف كثيرة، جعلت الخسائر البشرية فادحة، ما أخذ يخف تدريجيا بفعل التقدم البشري عموما والطبي على وجه الخصوص.

من تلك التجارب القدرية القاسية، نسرد عدة حكايات من أرشيف المصريين مع الأوبئة وكيف تجاوزوها لتنتصر الحياة في النهاية.

الكوليرا تفتك بالصعايدة

في بداية القرن العشرين، كانت مصر على موعد مع موجة جديدة من وباء الكوليرا، ففي صيف عام 1902، ظهر الوباء لأول مرة في قرية بالصعيد، وراح ضحيته الآلاف من المصريين.

قصة الوباء في ذلك العام حكاها نجيب باشا محفوظ، رائد طب النساء والتوليد في مصر والعالم العربي، والذي كان آنذاك طالبا بكلية الطب، لعب دورا بارزا في مكافحة الوباء.

يقول محفوظ في مذكراته "حكاية طبيب"، أن القصة بدأت من الحجاج العائدين من الحج في الأراضي المقدسة، فبرغم أنهم حُجزوا في معازل الحجر الصحي في سيناء، واُتخذت احتياطات دقيقة، فإن الكوليرا تسربت إلى الأراضي المصرية.

كيف؟ يجيب محفوظ باشا: "كان من بين الحجاج الذين عادوا، بعد أن قضوا فترة الحجر الصحي، عمدة بلدة موشا (بمديرية أسيوط) وهو على حظ من الثقافة، وقد جلب معه عشر صفائح مملوءة بماء بئر زمزم، في مكة. وكانت زمزم في تلك السنة قد لحقها ميكروب الكوليرا، ولم يفطن إلى ذلك هو أو أطباء المحجر، فأذنوا له في نقل صفائح الماء معه، وهي محتوية على رواسي عضوية تقوتت بها ميكروبات الوباء".

بمجرد أن وصل عمدة "موشا" إلى القرية، أخذ يوزّع ماء زمزم من الصفائح على أهله ومحبيه، والذين صبّوه في آبارهم للتبرك به، ولم تمر إلا عدة أيام حتى ظهرت بينهم الكوليرا، وقتلت منهم الكثير.

ويشرح "محفوظ" طبيعة القرية الموبوءة قائلا إنها قرية صغيرة، سكانها بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف، تقوم على مرتفع من الأرض وسط الحياض بأسيوط. وفي أثناء الفيضان يمتلئ الحياض، فتصبح القرية كأنها جزيرة تحيط بها المياه، لا يوصل إليها إلا على متن القوارب.

ويلفت الطبيب النظر إلى أنه في ذلك الصيف كانت درجة الحرارة في القرية مرتفعة للغاية، حتى أنها كانت تصل في الصل إلى 53 درجة مئوية.

الوباء يتسلل بالرشوة

سريعا، أخذت الحكومة المصرية إجراءاتها، وفرضت حول القرية كردونا من العسكاكر يمنعون الدخول إليها أو الخروج منها. وحشدت لمكافحة الوباء خيرة الأطباء.

على رأس هؤلاء الخبراء كان الطبيب "جودمان" Goodman، والذي كان يعمل في الجيش وسبق له أن كافح الكوليرا في الهند، بجانب طبيب آخر اسمه الدكتور راونتري Rawentree.

ويكشف الطبيب الشاب آنذاك أن كل هذه الاحتياطات وفرض الحجر الصحي لم تمنع من تسرب الوباء خارج نطاق القرية، ويروي واقعة تبدو طريفة لكنها كانت سببا في تفشي المرض ووفاة الكثيرين.

إذ أن أحد الجنود الذين كانوا ضمن قوة حماية القرية، سهّل لأحد الأهالي الخروج منها مقابل "بيضة مشوية"، وكان الأخير حاملا للميكروب، ما أدى إلى انتشار الوباء في بلاد مجاورة مثل "ديروط البلد" و"ديروط المحطة"، ومنها إلى مدن مصرية آخرى في الدلتا والشمال.

ويحكي "محفوظ" أنه في اللحظة التي وصل فيها إلى القرية لبدء عمله في مكافحة الوباء، كان "الدكتور جودمان" يعقد محاكمة عسكرية لذلك الجندي، انتهت بالحكم عليه بالضرب أربعين جلدة، وحبسه ستة أشهر.