الخميس 25 ديسمبر 2025 الموافق 05 رجب 1447
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
فن ومنوعات

رحلة أول ترنيمة مسيحية من بردية في صحراء مصر إلى العزف على مسارح أستراليا

الرئيس نيوز

في قلب صحراء مصر، وتحديدًا في مدينة البهنسا، التي أطلق عليها قديمًا اسم "أوكسيرينخوس"، عثر باحثون وأثريون في أواخر القرن التاسع عشر على برديات متعددة تضم عقودًا تجارية وأوامر اعتقال رومانية ونصوصًا دينية. لكن بين تلك الأوراق البالية برزت بردية فريدة حملت ما يعرف اليوم بأقدم نوتة برموز موسيقية لواحدة من أوليات الترانيم المسيحية المكتوبة بطريقة التدوين الموسيقي.

وذكرت هيئة الإذاعة الأسترالية أن هذه البردية، التي أطلق عليها اسم "بردية أوكسيرينخوس 1786"، لم تكن مجرد أثر تاريخي، بل نافذة بالغة الأهمية على الحياة الروحانية التي عاشها المسيحيون الأوائل الذين واجهوا الاضطهاد الروماني بأغنية مفعمة بالثقة والفرح والتحدي والأمل في مستقبل مشرق.

صوت من الماضي
يطلب النص المكتوب على البردية من الكون أن يصمت وأن يتفرغ للتأمل، ويطلب من النجوم أن تخفف أشعتها، ومن الأنهار أن تهدأ، كي يرنم البشر للرب  في كلمات بسيطة لكنها تحمل عمقا دينيا، إذ تكشف عن إيمان راسخ يتجاوز كل المحن. وأكد الباحثون في أستراليا أن هذه الترنيمة لم تكن مجرد دعاء، بل إعلان جماعي بأن الإيمان قادر على مواجهة القسوة والاضطهاد بالاحتفال والرجاء.

من الأرشيف إلى الحلم
وظلت البردية حبيسة الأرشيفات على مدار عقود طويلة، حتى وقعت بين يدي الأكاديمي الأسترالي جون ديكسون. حين نظر إليها تحت المجهر شعر باندفاع داخلي نحو فك رموزها وفهمها فهما كاملا، وقال لنفسه: لماذا لم يعد أحد هذه الترنيمة إلى الحياة؟

ومنذ تلك اللحظة بدأ مشروعه الذي جمع بين شغفه بالتاريخ والموسيقى والإيمان المسيحي. لم يكتف ديكسون بالبحث الأكاديمي، بل سافر إلى موقع الاكتشاف في البهنسا، حيث تغنى القدماء بالترنيمة باليونانية القديمة داخل أطلال كنيسة متهدمة. ووصف التجربة بأنها إعادة الصوت إلى مكان لم يسمعه منذ نحو 1800 عاما، وكأن الزمن انطوى ليعيد اللحظة الأولى.

ولادة جديدة للترنيمة
بالتعاون مع الموسيقي الأسترالي بن فيلدينج والموسيقي الأميركي كريس توملين، تم إحياء اللحن في صياغة حديثة وبتوزيع جديد. وتبادل الفريق التسجيلات عبر القارات، بين سيدني ونشفيل، ليصوغوا عملًا موسيقيًا يجمع بين أصالة النص القديم وذوق الأذن المعاصرة. أما النتيجة، فكانت أغنية بعنوان "الترنيمة الأولى"، التي عرضت لأول مرة أمام 12000 مستمعا في ولاية تكساس، حيث اندمج الجمهور في ترديد كلمات كتبت قبل قرون. وكان العرض أشبه ببعث جديد لصوت قديم، إذ غدت الترنيمة جزءًا من وجدان جماعي معاصر.

من وثيقة إلى ظاهرة
لم يتوقف الأمر عند الحفلات، فسرعان ما دخلت الترنيمة التي عثر  عليها في مصر قوائم أكثر الترانيم إنشادًا في الكنائس الأسترالية، وحققت نجاحًا غير متوقع في دور السينما عبر فيلم وثائقي يوثق رحلتها التي تحدت النسيان عبر قرون. أما شركات التوزيع، فقد فوجئت بالإقبال الكبير على عمل تاريخي ديني، ما دفعها لتمديد عرضه أكثر من مرة.

ويعكس هذا النجاح تعطش الجمهور إلى قصص تربط الماضي بالحاضر، وتظهر أن النصوص القديمة لا تزال قادرة على الإلهام والسطوع والتألق حتى في القرن الحادي والعشرين.

دلالات ثقافية وروحية
تاريخيًا: تكشف البردية عن وجود تقليد موسيقي مسيحي مبكر، يوازي ما كان يُكتب في العالم اليوناني والروماني. وروحيًا: عكس النص ثقة المؤمنين الأوائل رغم الاضطهاد، إذ يرنمون بالفرح وسط المحن. وثقافيًا: قدمت إعادة تقديم الترنيمة اليوم فرصة ذهبية للربط بين أجيال متباعدة، وكشفت كيف يمكن لصوت قديم أن يجد صداه في قلوب معاصرة.

بين الماضي والحاضر
وعلق الأكاديمي الأسترالي جون ديكسون على هذا الإنجاز الأثري الموسيقي الإبداعي بالقول: "هذه الترنيمة الأولى ليست مجرد أغنية، بل رمز لاستمرارية الإيمان عبر العصور. فهي تكشف أن المسيحية منذ بداياتها لم تكن مجرد عقيدة جامدة، بل حياة تعاش وتغنى. وإعادة إحيائها اليوم في الكنائس والمسارح الأسترالية تعكس رغبة في التواصل مع الجذور، وفي الوقت ذاته تقديم رسالة أمل ووحدة للمؤمنين المعاصرين".

وأشارت هيئة الإذاعة الأسترالية إلى أن رحلة هذه الترنيمة من بردية مصرية مدفونة في الرمال إلى مسرح حديث في أستراليا هي قصة عن إحياء الذاكرة الروحية، وعن قدرة الفن على تجاوز الزمن والجغرافيا. إنها شهادة على أن الكلمات التي كتبت في ظل الاضطهاد الروماني ما زالت قادرة على أن تلهب مشاعر جمهور عالمي في القرن الحادي والعشرين. بهذا المعنى، تتحول الترنيمة إلى جسر يربط بين الماضي والحاضر، بين مصر القديمة وأستراليا الحديثة، وبين مؤمنين واجهوا المحن ومؤمنين يعيشون في عالم مختلف لكنهم يتشاركون نفس الإيمان.