الأربعاء 24 ديسمبر 2025 الموافق 04 رجب 1447
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
فن ومنوعات

ماذا كان يحدث على متن قارب الحفلات المكتشف قبالة الإسكندرية؟

الرئيس نيوز

تحت مياه الميناء الشرقي للإسكندرية، حيث ترقد بقايا مدينة غارقة طمرتها الزلازل وارتفاع منسوب البحر عبر قرون، كشف علماء الآثار عن حطام سفينة غير اعتيادية، وقد أعاد الاكتشاف فتح أسئلة قديمة حول أنماط الحياة والطقوس في واحدة من أعظم مدن المتوسط. 

الاكتشاف، الذي أُعلن عنه في وقت مبكر من ديسمبر 2025، لا يتعلق بسفينة تجارية أو عسكرية مألوفة، بل بقارب يرجح أنه من نوع "ثالاماغوس" المرتبط في الأدبيات القديمة بالترف والاحتفالات، في موقع كان قلبا سياسيا ودينيا واقتصاديا للإسكندرية القديمة، وفقًا لمجلة كونفرسيشن.

وعثر على القارب ضمن أعمال تنقيب تقودها فرق متخصصة في الآثار البحرية، ركزت خلال السنوات الأخيرة على منطقة جزيرة أنتيـرودوس الغارقة، حيث كشف سابقا عن معبد الإلهة إيزيس الذي تم تجديده في عهد كليوباترا السابعة، وقصر "التيمونيوم" المنسوب إلى مارك أنطونيو. هذا السياق المكاني ليس تفصيلا ثانويا، إذ يضع السفينة المكتشفة في محيط ملكي – ديني، ما يوسع دائرة التفسيرات المحتملة لوظيفتها ودورها.

في البداية، بدت المؤشرات التقنية وكأنها تشير إلى سفينة تجارية من العصر الروماني المبكر، خاصة بعد استخدام مسح عالي الدقة بالموجات الصوتية، مدعوم بخوارزميات تعلم آلي صممت لرصد "توقيعات" السفن الغارقة. غير أن الغوص الميداني المتكرر ساهم في تغيير هذا التصور جذريا. فالسفينة، التي يبلغ طولها نحو 28 مترا وعرضها سبعة أمتار، ذات قاع مسطح وهيكل عريض أقرب إلى الصندوقي، ولا تحتوي على موضع صارية، ما يعني أنها لم تصمم للإبحار بالشراع بل للتجديف، وهو ما يستبعد كونها ناقلة بضائع بحرية تقليدية.

وجاءت الأدلة الأكثر دلالة من التفاصيل الدقيقة، أي عدم تماثل المقدمة والمؤخرة، والانحناءات الواسعة عند الأطراف، إضافة إلى كتابات يونانية محفورة على ألواح خشبية مركزية، يرجح أنها أضيفت خلال عمليات بناء أو ترميم محلية في الإسكندرية. هذه السمات دفعت الباحثين إلى مقارنتها بصور ووثائق قديمة، أبرزها فسيفساء باليسترينا الشهيرة قرب روما، التي تظهر قاربا نهريا هلالي الشكل مزودا بصف من المجاديف، وهو ما يتطابق إلى حد لافت مع الحطام المكتشف.

هنا يبرز مصطلح "ثالاماغوس"؛ وهو نوع من القوارب النيلية ورد ذكره في النصوص الرومانية بوصفه قاربا فخما مرتبطا بالملوك والنخب. ووصفه الفيلسوف سينيكا ساخرا بأنه "لعبة الملوك"، بينما صوره الجغرافي سترابو مسرحا للولائم الصاخبة خلال الاحتفالات العامة في محيط الإسكندرية، خاصة في مدينة كانوبوس. غير أن الباحثين يحذرون من قراءة هذه الشهادات حرفيا، معتبرين أنها مشبعة بتحيزات رومانية هدفت إلى تصوير المجتمع البطلمي بوصفه غارقا في البذخ والانحلال.

وتكشف الوثائق الإدارية البردية، على الجانب الآخر، صورة أكثر واقعية وأقل إثارة. ويرجح أن السفينة لم تكن مجرد قارب للهو، بل استخدمت أيضا لنقل كبار المسؤولين، وحمل بعض أنواع البضائع، وأداء مهام لوجستية على النيل وفروعه. بهذا المعنى، يصبح وجودها في ميناء تجاري مزدحم مثل الميناء الملكي أمرا منطقيا، ويعكس تعدد وظائف القوارب النهرية في مدينة كانت تعتمد على شبكة مائية معقدة لربط السياسة بالاقتصاد والدين.

ومع ذلك، يظل الموقع عاملا حاسما في ترجيح فرضية أخرى أكثر رمزية. فالقارب عثر عليه بالقرب من معبد إيزيس، وربما غرق أثناء الزلزال نفسه الذي أدى إلى انهيار أجزاء من هذا المجمع الديني. هذا القرب الجغرافي يفتح الباب أمام احتمال أن يكون القارب زورقا احتفاليا طقوسيا، استخدم خلال مهرجانات دينية كبرى، أبرزها احتفال "ملاحة إيزيس" الذي كان يرمز إلى افتتاح موسم الإبحار بعد الشتاء والدعاء بحماية أسطول الحبوب المتجه إلى روما، شريان الحياة الغذائية للإمبراطورية.

ولم يقدم الاكتشاف إجابة واحدة قاطعة عن "ما الذي كان يحدث" على متن هذا القارب، بقدر ما يكشف عن الاستخدامات والمعاني المتداخلة. فهو، على الأرجح، لم يكن مجرد "قارب حفلات" بالمعنى السطحي الذي روجته بعض الروايات الرومانية، ولا سفينة عملية بحتة، بل كيانا وسيطا جمع بين الطقوس، والإدارة، والتمثيل الرمزي للسلطة في مدينة عاشت قرونا على إيقاع البحر والنهر معا. هكذا، يضيف الحطام المكتشف قبالة الإسكندرية قطعة جديدة إلى لغز حضاري لا يزال يتكشف، ببطء، من تحت الماء.