إشارات مزيفة.. من يتلاعب في نظام تحديد المواقع للطائرات والسفن حول العالم؟
سلطت مجلة فورين بوليسي الضوء على إشارات مزيفة أصبحت في الآونة الأخيرة تزيح الطائرات والسفن عن مساراتها، في سياق حرب إلكترونية غير معلنة تُدار عبر في أغلب الأحيان عبر الأقمار الصناعية، وأكدت أن عمليات التلاعب بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS) لم تعد مجرد تقارير تقنية فردية — بل تحوّلت إلى ظاهرة استراتيجية واسعة النطاق تُعرِّض سلامة الملاحة المدنية والعسكرية للخطر في أرجاء العالم.
وأشارت المجلة إلى تحقيق شامل أجرته مؤسسة C4ADS كشف عن نمط متصاعد وممنهج من هجمات ما يعرف باسم (تزييف إشارات الملاحة الفضائية) GNSS spoofing، في مناطق حيوية مثل شبه جزيرة القرم، وسوريا، وهو ما أثار إنذارات لدى الهيئات التنظيمية والهيئات العسكرية والمدنية على حد سواء، معتبرة أن هذه العمليات تشير إلى تحول في طبيعة الحرب الإلكترونية — من التشويش التقليدي إلى التزييف الذكي المؤثّر.
أرقام وإدراك جديد للخطر
ويوثّق التقرير ما يقرب من 9،883 حالة مشتبه بها من تزييف إشارات الملاحة الفضائية (GNSS)، لافتا إلى أن هذه الحالات أثّرت فعليًا على 1،311 سفينة مختلفة تجوب المياه حول مناطق النزاع ولم يقتصر الأمر على المياه الإقليمية، بل شمل مناطق دولية مثل البحر الأسود والمناطق المحاذية لبحر البلطيق، ما يثير مخاوف بشأن سلامة الملاحة الدولية واستقرار خطوط الشحن العالمية.
ويشير التقرير إلى أن الأجهزة المطلوبة لتنفيذ هجمات التزييف وإدارتها أصبحت متاحة تجاريًا — ففي دراسة مستقلة أشار باحثون إلى أن تكلفة جهاز التزييف قد تُقدَّر ببضعة مئات من الدولارات، مقارنة ببضع آلاف سابقًا.
أمثلة عملية: من حميميم إلى البحر الأسود
سوريا / قاعدة حميميم
في سوريا، سجّلت التحليلات نشاطًا مكثفًا حول قاعدة حميميم الجوية. وحدد التقرير أن الإشارات التكتيكية لتزييف GNSS عند هذه القاعدة كانت أضعاف الإشارات الأصلية — ووُجد أن قوة الإشارة المزيفة وصلت إلى ما يقارب 500 ضعف الإشارة الحقيقية، ما يشير إلى قدرة متقدمة على تشويش أو توجيه الطائرات أو السفن التي تحلّق أو تطوف قرب الموقع.
ويُعتقد أن هذا الاستخدام جاء كجزء من استراتيجية "حرمان المجال الجوي" (air-space denial) في مناطق العمليات، بهدف تعطيل الطائرات المسيّرة أو أنظمة الملاحة المعادية.
القرم والبحر الأسود
على الساحل الشمالي للبحر الأسود وشبه جزيرة القرم، تم رصد أنماط جعلت مراكب تجارية أو حتى مراكب حرة تشير أنظمة تحديد مواقعها أنها في مدارج مطارات أو قرب منشآت عسكرية بدلًا من مواقعها الحقيقية. في إحدى الحالات، سفن سجلت مواقع قرب مطار أنابا حينما كانت في الواقع في مياه مفتوحة.
كما لوحظ ارتباط زمني بين زيارة رؤساء دول لمناطق استراتيجية، وحدوث عمليات تزييف على مقربة من مناطق زياراتهم، ورصدت سفن قرب المناطق الحيوية تغيّرًا مفاجئًا في نظام تحديد المواقع.
موسكو والمناطق المحيطة
حتى داخل العاصمة الروسية موسكو والمناطق القريبة، وثّقت C4ADS حالات تلاعب بـGPS حول مقرّات حكومية عدّة، بما في ذلك منطقة الكرملين، حيث تم رصد إشارات مُوجَّهة تنقل الأدوات أنها في مطار فنوكوفو الدولي رغم أنها في وسط موسكو. ويُعتقد أن التوظيف هنا يتعلّق بحماية الشخصيات المهمة أو التشويش على طائرات مسيّرة محتملة.
لماذا يُعد هذا التهديد خطيرًا؟
الخطر الجوهري يكمن في أن التلاعب بـGPS لا يُكتشف بسهولة، لأنه لا يُحدث خللًا واضحًا أو فقدانًا للإشارة فحسب، بل يرسل معلومات خاطئة تبدو طبيعية. هذا يعني أن الطيار أو القبطان قد لا يدرك أنه يسير في مسار خاطئ إلا بعد فوات الأوان.
وفي سياق الطيران، تشير المصادر إلى أن طائرات مدنية كانت تمر فوق شمال سوريا قد واجهت “انحرافًا مفاجئًا” في المسار رغم أن أنظمة الملاحة كانت تعمل بشكل ظاهر طبيعي، وفقا لشكاوى طيارين.
وفي سياق البحار، قد تتجه سفينة إلى منطقة منزوعة الأمان أو قرب أهداف عسكرية دون أن تتعرض لضغط خارجي واضح، ما قد يؤدي إلى توقيع حادث، احتجاز، أو حتى اشتباك بحري.
وعلى الصعيد الأوسع، حيث تعتمد البنى التحتية (كشبكات الهواتف المحمولة، والبورصات، وشبكات الطاقة) على توقيت دقيق يأتي من نظم GNSS، فإن التلاعب يمكن أن يؤدي إلى تعطيل هذه الشبكات أو تشويشها، وبالتالي، ما بدأ كمسألة “ملاحة” يتحول إلى مسألة “أمن مشترك للبنى التحتية الحيوية”.
الطيران المدني في مرمى الخطر
ويشير التقرير إلى أن شركات الطيران المدني، خصوصًا التي تُشغّل رحلات في الشرق الأوسط وشرق أوروبا، أصبحت تواجه صعوبات متزايدة في الحفاظ على سلامة الرحلات الجوية. أحد تقارير الطيارين أشار إلى أن نظام الملاحة عرض فجأة موقعًا خاطئًا أو “مقترحًا” للارتفاع أو المسار، ما دفع الطائرة إلى إجراء مناورات تجنّب اضطرارية.
لكن الواقعة التي جرى فيها “انحراف مفاجئ” — حينما كانت الطائرة تعمل فوق شمال سوريا — لم تُعطَ تفاصيل علنية موسّعة من الشركة، لكن التقرير أكد أن أنظمة الملاحة لم تفشل بالكامل، بل أعطت بيانات غير دقيقة.
هذا الأمر يُعد مقلقًا لأن الطيران المدني يعتمد بشكل متزايد على نظم GNSS بدلًا من الملاحة البصرية أو الرادارية التقليدية، ما يجعل كل خلل أو تشويش يترجم سريعًا إلى حالة طوارئ. كما أن عمليات التحليق فوق المناطق النزاعية أو الممرّات المحاذية لها لا تملك غالبًا شبكات احتياطية كثيفة مثل تلك التي في الأجواء الأمريكية أو الأوروبية.
وفي عالم يعتمد كليًا على الملاحة الرقمية، فإن أي تلاعب في نظام GPS يُعد تهديدًا مباشرًا لحياة المدنيين”، كما كتبت مجلة فورين بوليسي وبالتالي، ما يبدو مؤقتًا كتشويش قد يتحول إلى حادث جوّي بحري أو حتى انفجار اقتصادي أو شبكي، إن لم يتم التصدي له بوعي كافٍ.
غياب الرد الدولي: ثغرة قاتلة
رغم توثيق آلاف الحالات، لا توجد حتى الآن اتفاقية دولية ملزمة تُجرّم بوضوح التلاعب بنظم الملاحة الفضائية، ولا توجد آلية موحدة لرصد هذه الهجمات أو معاقبة مرتكبيها. التقرير انتقد هذا الفراغ القانوني، ووصفه بأنه “ثغرة قاتلة في منظومة الأمن العالمي” خصوصًا أن الدول التي تستخدم هذه التقنية غالبًا لا تعترف بها رسميًا.
على سبيل المثال، رغم أن النرويج وفنلندا أبلغتا عن انقطاع أو تشوش في GPS خلال تدريبات لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، إلا أن الرد الدبلوماسي الدولي ظل محدودًا، والنقاش حول “من فعل ماذا” ظل ضبابيًا.
وهنا تبرز مشكلة كبيرة تُعرف بـ “إسناد الفعل” (attribution problem) — أي تحديد الجهة المنفّذة بدقة — وهو ما يُضعف الردع الدولي ويشجّع على استمرار الأعمال دون تكاليف واضحة.
هل من حلول تقنية؟
يبدو أن الإجابة: نعم، الخبراء يشيرون إلى حزمة من الخيارات التقنية والتنظيمية يمكن أن تخفّف هذا التهديد، لكنها تواجه تحديات تنفيذية. هذه الحلول تشمل:
أنظمة الملاحة المتعدِّدة: الدمج بين GPS الأميركي، وGLONASS الروسي، وGalileo الأوروبي، وربّما Beidou الصيني، ما يزيد من صعوبة التزييف أو التشويش الأحادي.
التحقّق من التوقيع الرقمي للإشارات: تصميم مستقبلات GNSS تستطيع التحقق ما إذا كانت الإشارة مأخوذة من مصدر مصدَّق أو مزيّف.
أنظمة الذكاء الاصطناعي والمراقبة: تحليل أنماط الإشارات لاكتشاف التغيّرات المفاجئة في القيم أو مقارنات الطيف الزمني للترددات.
أطر تنظيمية دولية: تطوير بروتوكولات طيران مدنية وبحرية تتضمّن سيناريوهات تزييف GNSS وتدرّب الطيارين والقباطنة على التعامل مع “إشارة مشبوهة”.
لكن هذه الحلول مكلفة تقنيًا، وتتطلّب تعاونًا دوليًا واسع النطاق، ولم تُطبّق بعد على نطاق واسع عبر شركات الطيران البحري أو المدني. تقرير C4ADS يؤكّد أن التكنولوجيا ليست بعيدة المنال، لكن “الإرادة السياسية والموارد التشغيلية” هما ما يحدان الانتشار.
حرب غير معلنة في السماء
ما يكشفه هذا التحقيق ليس فقط خطا تقنيا، بل إطار جديد للحرب — حرب تُدار عبر الترددات والراديو، حيث تُستخدم إشارات الملاحة كسلاح صامت، لا يُرى ولا يُسمع، لكن تأثيره يمكن أن يكون كارثيًا: تغيير مسار الطائرات، إرباك الملاحة، تهديد المدنيين، وزعزعة البنية التحتية.