الجمعة 05 ديسمبر 2025 الموافق 14 جمادى الثانية 1447
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
سياسة

وقفت الحرب.. لكن ماذا تبقّى من غزة؟

نازحون فلسطينيون
نازحون فلسطينيون خلال عودتهم إلى منازلهم في شمال غزة

في السابع من أكتوبر، لم تتوحّد إسرائيل على ذكرى واحدة، كان التاريخ نفسه مرآةً مشروخة تعكس وجوهًا متعددة من الخوف والغضب والخذلان.

عائلات الأسرى الثمانية والأربعين الباقين في غزة تتهم حكومة بنيامين نتنياهو بأنها تُطيل عمر الحرب عمدًا، برفضها كل اتفاقٍ قد يعيد أبناءهم إلى بيوتهم.

أما العالم، الذي اصطف يومًا خلف إسرائيل بعد هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023، فقد أدار وجهه عنها، وتحوّل التعاطف إلى إدانة متزايدة لأفعال جيش الاحتلال في غزة، والدفاع إلى مساءلة.

وفيما تتعثر المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وحماس، بوساطة مصرية وقطرية وبرعاية أمريكية حذرة، أعادت المحادثات التي استضافتها مصر في السادس من أكتوبر الجاري الأمل إلى مشهدٍ غارقٍ في الركام والإنهاك.

الأثر البائس للحرب

قبل عامين، اخترق مقاتلو حماس الأسلاك والحدود، في ساعات الفجر الأولى انفتحت البوابة على أكثر الأيام دموية في تاريخ إسرائيل، بل في ذاكرة اليهود منذ المحرقة.

قُتل نحو 1200 شخص، وخُطف 251 رهينة، واهتزّت العقيدة الأمنية التي تغذت عليها إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948.

الهجوم باغت أجهزة الاستخبارات وأربك جيش الاحتلال الذي اعتاد المبادرة لا المفاجأة، تدفّق المسلحون حتى عمق 25 كيلومترًا داخل الأراضي المحتلة، وبلغوا أوفاكيم في النقب الغربي.

في مهرجان نوفا الموسيقي قرب رعيم، على بعد خمسة كيلومترات فقط من غزة، سقط 378 قتيلًا، كانت الموسيقى تصمت فجأة لتحلّ محلها الصرخات والدخان.

وخلال ثلاثة أيام فقط، بين السابع والتاسع من أكتوبر، أمطرت المقاومة سماء إسرائيل بنحو 4500 صاروخ وقذيفة، أي ما يعادل تقريبًا كل ما أُطلق خلال حرب غزة عام 2014 التي امتدت شهرين كاملين.

ردّ جيش الاحتلال بسلسلة غارات جوية كثيفة، تلتها حملة برية تحت إشراف نتنياهو الذي وعد بالذهاب إلى النهاية.

لكن النهاية لم تكن كما أراد؛ فآلاف المدنيين الأبرياء سقطوا في غزة، وتحولت الحرب من معركة ضد حماس إلى معركة ضد الحياة نفسها.

لم تمزق الحرب غزة وحدها، بل زعزعت استقرار الإقليم كله، وغيّرت خرائط الخوف والعداء في الشرق الأوسط.

دمار كامل

الرد الإسرائيلي كان شاملًا ومدمرًا، في الأسابيع التسعة الأولى وحدها، سقط أكثر من 18 ألف شهيد من سكان غزة، معظمهم من المدنيين الذين لم يعرفوا سوى الحصار والموت.

ومنذ ذلك الحين، تواصلت المجازر بأرقام تفوق الوصف، وباستثناء هدنة قصيرة خلال شهرين بين يناير ومارس 2025، استمرت النار لتلتهم ما تبقى من الأرواح والبيوت.

تقديرات الأمم المتحدة ترسم صورة لمجتمع يشيخ تحت الركام؛ متوسط العمر المتوقع في غزة انخفض بأكثر من 35 عامًا، انهيار يفوق في فداحته كوارث القرن الماضي، من القفزة الكبرى إلى الأمام في الصين، إلى الإبادة في رواندا.

أما وجه غزة اليوم، فيمكن أن يُرى من الفضاء، وكالة الأمم المتحدة للأقمار الصناعية (UNOSAT) قدّرت في أغسطس 2025 أن 78% من مباني القطاع تضررت، وأكثر من 102 ألف مبنى دُمّر بالكامل، جباليا في الشمال ورفح في الجنوب أصبحتا اسميْن على أنقاض.

تقول إسرائيل إن المسلحين يستخدمون المدارس والمستشفيات للاختباء، لكن الواقع أن آلاف الأبرياء سقطوا تحت القصف باسم الضرورة العسكرية.

الركام يختصر الحكاية: 53.5 مليون طن من الأنقاض تغطي مساحة لا تتجاوز 365 كيلومترًا مربعًا، أي ضعف مساحة واشنطن العاصمة، ومرآة لمدينة كانت تضج بالحياة ثم تحوّلت إلى رماد.

أما كلفة الإعمار، فقدّرها البنك الدولي بـ53 مليار دولار، أي أكثر من ضعف الناتج المحلي الإجمالي لغزة والضفة الغربية قبل الحرب.

هكذا تحوّلت الحرب من مواجهة إلى محو، ومن عملية عسكرية إلى تجربة قاسية في معنى الفناء.

لا ملاذ آمن في القطاع

لم يعد في غزة مكان آمن، كانت السماء تشيخ من فرط القصف، والأرض تئن تحت الركام، أجبرت قوات الاحتلال مئات الآلاف على مغادرة بيوتهم، كأنهم يُساقون من وطنٍ إلى فراغ، من حياةٍ إلى انتظارٍ طويل في مخيمات بلا سقف ولا دفء.

في نهاية يوليو 2025، لم يتبقَّ سوى 12.7% من مساحة القطاع للحياة، أو لما يشبهها، كانت الخيام تتراصّ على الرمال، أقرب إلى مقابر جماعية مفتوحة، حيث يتنفس الناس الخوف بدل الهواء، ويقتسمون الجوع والماء الملوث والذكريات.

جوع متصاعد وطفولة منهكة

تقول الأمم المتحدة إن نصف مليون إنسان في غزة يواجهون الجوع الشديد أو ما هو أسوأ، الأطفال الذين لم يبلغوا الخامسة صاروا يعرفون معنى سوء التغذية الحاد قبل أن يتعلموا النطق الكامل لأسمائهم.

أغلقت إسرائيل المعابر، وتوقفت الشاحنات المحملة بالمساعدات على الأبواب، والغذاء صار رسالة سياسية لا شحنة إنسانية.

وفي مايو الماضي، ظهرت منظمة تُدعى مؤسسة غزة الإنسانية (GHF)، تحمل ختمًا أمريكيًا ومهمةً ملتبسة.

دخلت إلى القطاع لتوزع الطعام، لكنها أثارت شكوك المنظمات الدولية التي رأت فيها خرقًا للمبادئ الإنسانية أكثر مما هي مبادرة إغاثة.

وحين نزل المتعبون لاستقبال المنقذين، تحوّل المشهد إلى مجزرة صغيرة على هامش المأساة الكبرى.

سقط مدنيون برصاص جيش الاحتلال، في فوضى توزيعٍ لم يكن فيها للرحمة مكان، ولا للإنسان ملجأ.

الضفة.. ظلّ الاحتلال يمتد 

في الضفة الغربية، لا يختلف المشهد كثيرًا عن غزة إلا في شكل الخراب، هناك، تسير المأساة على قدمين باردتين، لا يعلو صوت فوق صوت الاستيطان.

حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة لوّحت بالضم الكامل، كأنها تعلن موت ما تبقى من وهم حل الدولتين.

قالوا إن الضمّ سيكون الرد إذا اعترفت الدول الغربية بفلسطين، لكن الاعتراف جاء من عواصم كثيرة، وجاء معه التهديد الفعلي بابتلاع ما تبقى من الأرض.

عنف المستوطنين 

في القرى الممتدة بين نابلس والخليل، يسير المستوطنون مدججين بالحقد والسلاح، يهاجمون الحقول والمنازل، والمحتل يراقب المشهد بعينٍ مفتوحة وأخرى مغمضة، فالعنف ليس طارئًا، بل سياسة يومية لتفريغ الأرض من أصحابها.

في خلفية الصورة، تمضي خطة بناء مستوطنة E1 كجرّافة سياسية، تشق الضفة إلى نصفين، وتدفن حلم الدولة الفلسطينية المتصلة جغرافيًا، الذي ظل لعقود شعارًا في مؤتمرات السلام.

القدس.. ذاكرة تُمحى

أما القدس الشرقية، العاصمة التي وعدت بها خرائط التفاوض، فقد ضُمّت قبل خمسة وأربعين عامًا، وطُهّرت ببطء من رموزها الفلسطينية.

الأسماء العبرية صعدت مكان الأسماء العربية، والمآذن اختنقت تحت طبقات الأسمنت والمستوطنات، لم تعد القدس تشبه نفسها، صارت مدينة في الأسر، تُصلّي بالعربية وتُدار بالعبرية، وتنتظر يومًا لا يأتي.

مرارة الانتصار المستحيل

في الداخل، تتآكل ثقة الإسرائيليين بأنفسهم قبل أن تتآكل جدران غزة، الحرب التي وُعدوا بأنها طريق الخلاص، تحولت إلى مرآة للخوف، تنعكس فيها وجوه الجنود المتعبين، والأمهات اللواتي ينتظرن أبناءً لن يعودوا.

أكثر من سبعين في المئة من الإسرائيليين باتوا اليوم يفضّلون وقف إطلاق النار، كما لو أن السلام المؤقت أهون من النصر الملطخ بالدم.

القلق يتمدد في الشوارع، في المقاهي، صار السؤال يهمس في كل بيت: هل جعلتنا الحرب أكثر أمنًا؟ أم أكثر عزلة في عالم بدأ يشيح بوجهه عنّا؟

واشنطن تغيّر نظرتها

حتى البيت الأبيض لم يعد كما كان، في منتصف أغسطس، كشف استطلاع أمريكي أن 43% من الأمريكيين يرون ما يجري في غزة إبادة جماعية.

النسبة ترتفع بين الشباب، أولئك الذين لم يعودوا يرون في إسرائيل الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، بل قوة غاشمة فقدت البوصلة الأخلاقية.

تتبدل اللغة في الإعلام الأمريكي، وتتسلل غزة إلى القاموس اليومي للعار السياسي، حتى الحلفاء يتهامسون: كم يمكن لدولة أن تبقى ضحية وهي تزرع الركام في كل اتجاه؟

الجرح الذي لا يندمل

نجحت الوساطات في انتزاع هدنةٍ جديدة، لكن ستظل غزة جرحًا مفتوحًا في الجسد العربي، حماس لا تريد أن تُلقي سلاحها، ودول الخليج التي يراهن عليها ترامب لإعادة البناء تخشى أن تبني مدينةً ستُهدم من جديد.

أما الفلسطينيون، فيعيشون بين أنقاض وطنٍ مؤجل، وفي صدورهم يأس يمتد أطول من حدود الخرائط.

وإسرائيل؟ تبدو أكثر قلقًا من أي وقت مضى، تجد نفسها اليوم محاصرة بصورتها في مرآة العالم، صورة قوةٍ تخوض حربًا لا تعرف كيف تنتصر فيها، ولا كيف تخرج منها بوجهٍ إنساني.