فلسطين.. عباس النائم على عجلة القيادة
بينما تعترف بريطانيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى – باستثناء الولايات المتحدة – رسميًا بالدولة الفلسطينية، يبدو الواقع على الأرض مناقضًا تمامًا؛ إذ تتلاشى ملامح تلك الدولة المنشودة أمام زحف الاحتلال الإسرائيلي وسياساته التوسعية.
جيش الاحتلال حوّل غزة إلى أرض محروقة، فيما يضيّق وزير مالية الاحتلال بتسلئيل سموتريتش الخناق على السلطة الفلسطينية بحرمانها من عائدات الضرائب التي تُبقيها بالكاد على قيد الحياة.
وفي 3 سبتمبر، عرض خريطة لخطته التي تُظهر سيطرة إسرائيل على 82% من الضفة الغربية – جوهر أي دولة فلسطينية مستقبلية – لتُبقي المدن الفلسطينية جزرًا معزولة.
رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو يروّج لفكرة "إسرائيل الكبرى"، وحكومته اليمينية المتطرفة تهدد بضم الضفة الغربية بعد اعتراف الغرب بفلسطين، لكن الضم قائم بالفعل على الأرض، وهنا تكمن المفارقة: كلما تعاظمت الرؤية الخارجية لفكرة الدولة الفلسطينية، تلاشت داخليًا أكثر.
رام الله واجهة زائفة لسلطة عاجزة
لرؤية ما تبقى من ملامح الدولة الفلسطينية، يجب التوجه إلى رام الله، التي تحولت خلال العقود الثلاثة الماضية إلى واجهة إدارية للسلطة الفلسطينية.
لا تزال رام الله، الواقعة فوق القدس في الضفة الغربية المحتلة، تحتفظ بقدر من الحيوية: مقاهٍ جديدة، مطاعم، ومبانٍ حكومية تُبنى باستمرار، لكنها في الجوهر قرية بوتيمكين تخفي عجز السلطة.
ليلًا، يقتحم جنود الاحتلال المدينة – مقر الرئاسة الفلسطينية – بشكل متكرر، يرفعون الأعلام الإسرائيلية فوق مركباتهم العسكرية، وحتى في وضح النهار، تُسمع أصوات الرصاص في شوارع المدينة.
وفي موازاة ذلك، تشن إسرائيل حربًا اقتصادية؛ فمنذ تأسيسها عام 1994، تعتمد السلطة الفلسطينية على إيرادات الجمارك التي يجمعها الاحتلال نيابة عنها، واليوم تئن تحت أزمة مالية خانقة بعد تجميد تل أبيب تحويل الأموال.
النتيجة: رواتب مقطوعة للنصف، مدارس متأخرة عن موعدها، وتقليص دوام الموظفين والأجهزة الأمنية، والأزمة مرشحة للتفاقم مع وقف التعامل المصرفي مع البنوك الإسرائيلية، ما يهدد وصول البضائع الأساسية والوقود.
الضفة محاصرة بالاستيطان
على مقربة من رام الله يتبخر وهم الحكم الذاتي؛ الجدار العازل يفصلها عن القدس الشرقية – العاصمة المعلنة للفلسطينيين – بينما تتحول التنقلات بين مدن الضفة إلى رحلات شاقة عبر حواجز الاحتلال.
تغدو المشاهد من فلسطينية إلى إسرائيلية فجأة: نجمة داوود تزين الطرق، اللافتات تشير إلى مستوطنات لا إلى مدن فلسطينية، وغالبًا ما تُطمس الكتابات العربية، وملصقات تمجد شباب التلال – متطرفين يهود يسعون لطرد الفلسطينيين – تنتشر بكثافة.
لتسريع الاستيطان، لجأ المستوطنون إلى إنشاء بؤر زراعية عشوائية، تضاعف عددها أربع مرات منذ 2018 حتى غطّت 14% من الضفة الغربية.
المستوطنون، بعضهم رُفض تجنيدهم في الجيش سابقًا لعنفهم، باتوا اليوم مسلّحين ومدعومين بالكهرباء والمياه مجانًا والحماية العسكرية، بينما تُحرق بساتين الزيتون وتُدمَّر آبار الفلسطينيين بلا رادع.
حتى مشروع روابي، الذي افتُتح قبل 12 عامًا كمدينة عصرية للنخبة الفلسطينية بتكلفة مليار دولار، يعاني اليوم من اعتداءات المستوطنين الذين يمزقون أعلام فلسطين هناك بشكل متكرر.
أما القدس الشرقية، فقد ضُمّت قبل 45 عامًا وتعرّت من كل الرموز الفلسطينية، مجرد بيع كتاب يحمل علم فلسطين كافٍ لاعتقال صاحبه، فيما لم يعد الطريق المؤدي إلى بيت لحم والخليل يمر بالقدس، بل عبر حاجز عسكري قاسٍ في صحراء برّ الخليل.
وفي 20 أغسطس، منحت إسرائيل الموافقة النهائية لمشروع استيطاني جديد يضم 3400 وحدة سكنية في منطقة E1، والذي سيقسم الضفة فعليًا إلى شطرين، ويجعل بيت لحم ورام الله منفصلتين كما هو حال الضفة وغزة اليوم.
غياب القيادة وتآكل الشرعية
كان يُفترض أن يقود محمود عباس، البالغ 89 عامًا، الاعتراف الدولي المتصاعد بفلسطين، لكن أداءه أدهش حتى أنصاره الأقربين؛ يقف عاجزًا أمام مآسي غزة، واستُبعدت السلطة من المفاوضات بين إسرائيل وحماس والولايات المتحدة.
عباس، النائم على عجلة القيادة، دخل عامه الحادي والعشرين في الحكم، بعدما حلّ البرلمان عام 2007 وأصبح يحكم بالمراسيم، وبينما تجتاح المظاهرات العالمية الشوارع دعمًا لفلسطين، تبقى الضفة صامتة تحت قبضة الاحتلال.
ورغم الاعتراف الدولي، يشعر الفلسطينيون أن الدولة حلم بعيد؛ المجازر في غزة بثت اليأس، والاقتحامات والحصار خنقت الضفة، فيما تنشغل السلطة بأزماتها الداخلية.
سيناريو الإمارة في الخليل
تهديد آخر يلوح في الأفق: مستشارو نتنياهو يطرحون فكرة "إمارة الخليل"، أي تحويل المدينة الأكبر والأكثر ثراءً في الضفة إلى بلدية ذات حكم ذاتي ترتبط مباشرة بإسرائيل.
الخطة قد تسحب المورد الضريبي الأهم من السلطة الفلسطينية، وتفتح الباب أمام إدماج الضفة كليًا تحت السيادة الإسرائيلية.
بعض العائلات النافذة في الخليل لا تُخفي ميلها للفكرة، إذ طالما دفعت الضرائب للسلطة على مضض، لكن الاتجاه المعاكس يتعزز لدى الإسرائيليين.
استطلاع رأي في مايو أظهر أن أكثر من نصف الإسرائيليين يريدون طرد الفلسطينيين من داخل الخط الأخضر، ونحو 80% يريدون ترحيل سكان غزة، أي ضعف نسبة الرأي العام قبل عقدين.
والآن، يخشى كثير من الفلسطينيين أن تكرر إسرائيل في الضفة ما فعلته في غزة، أما نشوة الاعتراف الدولي في نيويورك، فلم تصل بعد إلى بيت لحم والخليل ورام الله.
