الأحد 28 أبريل 2024 الموافق 19 شوال 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
عرب وعالم

حسن أحمد عبد الله يكتب: "لبنان.. والنحر المتعمد"

حسن أحمد عبد الله
حسن أحمد عبد الله كاتب وباحث لبناني

يشعر المواطن اللبناني حين ينظر إلى واقعه اليومي، ويقارنه بالماضي، بنوع من العجب كيف استطاع البقاء على القيد الحياة إلى اليوم، خصوصا من عاصروا الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1991، وكيف كانوا يتأقلمون مع الأحداث والمتغيرات، الجغرافية أو الاجتماعية، أو الاقتصادية، فيما هناك من لا يزالون يديرون مؤسسات الدولة بالنمط نفسه الذي كان سائدا خلال الحرب، وتوزيع المغانم من دون أن يرف لهم جفن، ولا يسمعون أنين الناس.

في حسبة بسيطة يمكن للمرء اكتشاف مدى الخسائر التي تكبدها لبنان خلال السنوات الماضية، ليس فقط المباشرة، بل تلك غير المباشرة، فإذا كانت الودائع المعلن عنها المنهوبة من المواطنين تقدر ب 273 مليار دولار حتى العام 2019، فإن الخسائر الحرب بلغت 250 مليار دولار، ومنها 63 مليار دولار تكبدت بها الاعتداءات الإسرائيلية منذ العام 1971 حتى العام 2007، تضاف إليه تكلفة الفساد على مدار 33 سنة، أي منذ وقف الحرب والبالغة، وفقا لتقديرات خبراء ماليين، نحو 380 مليار دولار، دفعها الشعب اللبناني على مدى تلك السنوات.

يضاف إلى تلك الخسائر غير المباشرة عن عرقلة التصدير وانهيار العملة المستمر، البالغة نحو 600 مليون دولار شهريا من الناتج الوطني، تضاف إليها خسائر غير مباشرة بفعل تأخير المشاريع الإنمائية، والبنية التحتية، وتقدر بنحو 13 مليار دولار سنويا، فيما يتوقع خبراء اقتصاد خسائر مستقبلية من الناتج الوطني بين 20 و24 مليار دولار خلال خمس سنوات، جراء تبعات الأزمة المالية والاقتصادية التي يعيشها لبنان.

رغم هذه الواقع هناك أيضا التفلت الأمني جراء عدم قدرة المؤسسات الأمنية تأدية دورها إما بسبب نقص الإمكانات، أو غياب الكفاءات بعد استقالة نسبة لا بأس بها من السلك الأمني، وإضافة إلى التدخلات السياسية بعمل القضاء، والأمن، ولعدم توفر ميزانيات كافية لخدمة العسكريين.
المدهش، رغم الوضع السيئ هذا أعلنت قوى الأمن الداخلي (الشرطة) نهاية الأسبوع الماضي، إحصاءات لافتة للنظر، وهي انخفاض جرائم القتل والسرقة الموصوفة، والجنح، بنحو 25 في المئة، وإذا كان يرد البعض هذا الأمر إلى الحمايات التي يوفرها الناس لأنفسهم، فإن هناك أمرا آخر، وهو عدم الإبلاغ عن المخالفات.

هذا الأمر عاصرته خلال منتصف الثمانينيات، إذا أجريت دراسة على الجرائم الجنائية والجنح من خلال مقارنة الأرقام الرسمية التي زودتني بها المديرية العامة للأمن الداخلي، في العام 1988، وهي أرقام منذ العام 1974 وحتى العام 1987، وفيما كانت منخفضة بين سنوات الحرب الأولى، بين عامي 1975 و1978، ازدادت بعد العام 1982 بعد الغزو الإسرائيلي للبنان، لكنها انحسرت في مناطق بعيدة عن الحرب، ورد بعض المسؤولين في الأمن الداخلي، وقتذاك، الأمر إلى عدم الإبلاغ عن الجرائم والجنح، أو عدم معرفة مراكز الشرطة بها.

لا شك أن الأزمة غير المسبوقة التي يعيشها لبنان غيرت الأنماط الاجتماعية والسلوكية للناس، فإن كانت في ناحية معينة زادت من التعاضد الاجتماعي، إلا أنها في نواح أخرى عدة فرضت عدم الثقة بين الناس، وهذا الأمر ينسحب على المعاملات، أكان في الدوائر الرسمية بعد تفشي الرشوة، أو على مستوى العلاقات الاقتصادية، وبطبيعة الحال السياسية وتمترس كل فريق عند موقفه، لا لشيء إلا بسبب النكايات، على العكس مما كان يحصل خلال الحرب، إذ لم تنقطع الاتصالات بين الفرقاء كافة، وكانت تتم الهدنة بينهما من غير تدخل وسطاء من الخارج.

في هذا الشأن روي لي أحد قادة الأحزاب (عام 1988) أن أثناء الحرب كان هناك لقاء سيعقد بين شخصيات سياسية في منطقة قريبة من خطوط التماس، وكانت القذائف تنهمر عليها، فأجرى اتصالا بزعيم حزب معاد في المنطقة الأخرى، وطلب منه وقف القصف إلى حين انتهاء الاجتماع، وهكذا كان، لان أمراء الحرب كانوا يتقاسمون العوائد المالية والمصالح.

اليوم لبنان يختلف كثيرا عما كان سائدا في العقود الماضية، ففي العام 1989، وخلال حديث مع المرحوم الدكتور ادمون نعيم، وكان يومها حاكما للمصرف المركزي، قال لي: "أنا أدفع رواتب العسكريين والموظفين في المنطقة الشرقية كما في المنطقة الغربية، وكل لبنان"، وحينها قلت ممازحا: "بوصفك الحاكم للمصرف المركزي، فأنت تحكم لبنان من خلال الليرة"؟ أجاب: "نحن لدينا وطن لا يمكن أن يموت إلا إذا قرر أمراء الحرب نحره".

في العام 2023 يبدو أن نبوءة الدكتور نعيم باتت واقعا اليوم بعدما قرر أمراء السياسية اللبنانية حاليا نحر البلاد، والتغطية على المجرمين، وعدم تنفيذ القوانين بعد أن حصلوا على مبتغاهم من الثروة والنفوذ.

كاتب وباحث لبناني