الجمعة 26 أبريل 2024 الموافق 17 شوال 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تقارير

جمهورية الضحك الأولى" (4 - 4): مبارك.. "نُكتة تاريخية" عمرها 30 سنة

الرئيس نيوز


"المصريون شعب ابن نُكتة".. لا تبدو هذه العبارة كأثر شعبي جاف داسه الزمن بالتغيرات المتتالية، لكنها دليل حي، عمره من عمر المصريين أنفسهم، على روح الفكاهة لدى شعب وادي النيل، هذا الشعب الذي سجل في كتاب "الموتى" الفرعوني القديم حكمة بليغة تقول: "لا تحزن وأنت على قيد الحياة".

لماذا يقول المصريون النكتة؟ وكيف يقولونها؟ وعلى من؟ وفي أي ظروف؟.. كل هذه الأسئلة التي تبدو جديرة بالدراسة يقدم لها إجابات ويربطها ببعضها البعض كتاب "جمهورية الضحك الأولى.. سيرة التنكيت السياسي في مصر"، لطايع الديب، الصادر عن دار "بتانة" 2019، الذي يعرضه "الرئيس نيوز" على حلقات متتالية.

الكتاب الذي يمكن وصفه – عكس موضوعه - بـ"الجاد"، يستعرض هذا الولع المصري بالنكتة، عبر ثلاث عصور للنكتة السياسية في العصر الجمهوري، خلال فترات الرؤساء جمال عبد الناصر ومحمد أنور السادات ومحمد حسني مبارك، ثم يُتبع ذلك بدراسات جادة وقيمة للنكتة المصرية، مع التطرق لصداها عند العرب، مستعينًا بمصادر عديدة ومتنوعة في التاريخ والسياسة والأدب والسير الذاتية وعلم النفس، مع استهلالات ذكية ولافتة لكل فصل.

*

بدأ الأمر بردود غريبة لا تنم عن بساطة رئيس دولة بقدر ما تعبر عن ذكاء سياسي محدود وعدم تقدير، قبل أن ينفجر تماما لتصبح فترة حكمه التي استمرت 30 سنة، أشبه بـ"نكتة تاريخية" شكلها غريب في وجه التاريخ المصري.

يسجل الكتاب أنه بعد أقل من عام على توليه الحكم، دعا الرئيس محمد حسني مبارك مجموعة من الصحفيين والمثقفين لجلسة بقصر الرئاسة، وكان من بينهم محمود السعدني الذي سأل الرئيس: "إيه شعور سيادتك وإنت قاعد على نفس الكرسي اللي قعد عليه رمسيس الثاني ومحمد علي وجمال عبد الناصر"، فرد الرجل حديث العهد بالمنصب: "لو كان الكرسي عاجبك ابقى خده معاك وانت ماشي!".

رد غريب آخر جاء على لسان مبارك عندما كان يشرح له عالم الجيولوجيا فاروق البارز ملاحظات له على مشاريع تقيمها الدولة بسيناء، ليعلق الرئيس: "يا رب الأرض تنشق وتبلعك لو كنت فهمت منك حاجة".

يعود المؤلف لما قبل دخول مبارك القصر، وينقل عن سفير مصر لدى يوغسلافيا، جمال منصور، موقفًا من العمل السياسي لمبارك بعد تنصيبه نائبا للسادات عام 1975، عندما كُلف بنقل رسالة إلى الرئيس جوزيف تيتو، وطوال المباحثات التي استمرت لمدة ساعة كان مبارك ينظر إلى حذاء "تيتو" باستمرار! لكن العجب زال عندما خرج مبارك من الاجتماع وقال للسفير: "عايزك تعرف لي من أصحابك اللي في وزارة الخارجية اليوغسلافية تيتو بيشتري الجزم بتاعته منين".

لم يكن مبارك يتوقع أن يعينه السادات نائباً له، ولم يكن يتوقع حتى أن يعينه سفيراً لمصر في بلد أوروبي مثل بريطانيا، التي كان يتمنى أن يعمل في عاصمتها لندن "بلد الإكسلانسات"، لكن الحقيقة كما يشير إليها طايع الديب، نقلا عن النائبة ثريا لبنة، أن الرجل كان يتوقع تعيينه رئيس حي مصر الجديدة.

من أين جاءت "التحسينات" المضافة على القصة إذن؟ والتي ذكرها مبارك في أكثر من لقاء؟ إنها سوزان ثابت التي "أدركت بذكائها الحاد أن اعتراف زوجها على الملأ بموضوع رئيس الحي سيقلل من شأنه أمام الرأي العام، فالرجل محدود الذكاء والطموح، كانت أقصى أمانيه أن يصبح رئيس حي، فإذا به يصبح رئيس مصر!".

وبحسب أكرم القصاص، فإن المصريين لم يتسلموا مبارك بالنكت أو التشنيع في بداية عهده، إذ لم يكن معروفًا لديهم بالدرجة الكافية، بخلاف وعوده المبشرة بحكم جديد في مصر.

لكن الصمت الإرادي من الشعب على الرئيس لم يدم، إذ أدرك الناس أن حاكمهم يكاد يكون بلا شخصية، ما تجلى في الإفيه المسرحي الشهير لسعيد صالح عن الرؤساء الثلاثة: "أمي اتجوزت 3 مرات، الأولاني أكلنا المش، والتاني علمنا الغش، والتالت لا بيهش ولا بينش".

واتصالا بردوده التي تتعدى اللياقة، يروي المؤلف: "ذات يوم التقى مبارك في جلسة مغلقة بوفد من سيدات الأعمال الكويتيات كان في زيارة إلى القاهرة، لحضور مؤتمر اقتصادي ما، واشتكت بعض السيدات أثناء الجلسة للرئيس من أنهن يتعرضن أحياناً لسماع ألفاظ "غزل" خارجة عن الحياء، ومعاكسات بذيئة في الأماكن العامة، ولا يفعلن شيئا خوفا من الفضيحة، وخشية الدخول في سين وجيم إذا أبلغن الشرطة".

وبدل أن يعتذر لهن مبارك بلطف نيابة عن شعبه، ما كان منه إلا أن سب آباء المصريين جميعا بأقذع الألفاظ، ووصف أمهاتهم بأحط الأوصاف".

بعد دخول نجلي الرئيس، علاء ثم جمال، واحداً إثر الآخر في الصورة العامة، استلمهما الشعب - خاصة الأكبر - في موجات من النكت ظلت حية إلا ما قبل سقوط أبيهما عن الحكم.

إليك تلك النكتة الذكية: "كان مبارك يفتتح مصانع جديدة في منطقة برج العرب، وبعد جولة بالمدينة، دخل أحد المصانع وسأل عاطف صدقي رئيس وزرائه: المصنع ده بتاع مين يا عاطف؟ قال عاطف هامسا في أذنه: هقول لسيادتك بعدين يا أفندم. دخلوا المصنع اللي بعده، والتالت، والرابع، فحدث نفس الشيء.

وفجأة شخط مبارك في رئيس وزرائه: أنا كل ما أسألك المصنع ده بتاع مين يا عاطف تقول لي هقولك بعدين، قال عاطف: المصانع دي كلها بتاعة "الأستاذ علاء" يا أفندم، قال مبارك: "هو معقول عمل كل ده من مصروفه؟!".

بعد ذلك بسنوات قليلة، ظهر الأخ الأصغر، جمال، بطلاً للنكت المصرية، التي وجدت في رد مبارك على الاتهاماته بنيته توريث الحكم "ابني بيساعدني" طرف خيط سيجرّ الكثير من الضحك والسخرية.

يسجل المؤلف هذه النكتة مثلاً: "استدعى مبارك سيد طنطاوي شيخ الأزهر والبابا شنودة على عجل، وفور وصولهما إلى مقر الرئاسة قال لهما: أنا جمعتكم النهارده علشان أقول لكم إني نويت أتنازل عن الحكم رسمياً لابني جمال سنة 2011.

نظر الشيخ والبابا إلى بعضهما، وآثر طنطاوي الصمت؛ علامة الموافقة، غير أن شنودة انتفض من كرسيه قائلاً: "لا إله إلا الله محمد رسول الله. وفوجئ الشيخ مبهوتا بذلك، فسأله: إيه اللي بتقوله ده يا نيافة البابا؟ قال شنودة: ما هي حاجة تخلي الواحد يطلع من دينه!".

ولا ينسى المؤلف أن يمر على تعليقين شهيرين لمبارك، خليا من الذكاء السياسي، الأول عندما كان يفتتح مشروعًا ما بسوهاج وسأل أحد الأهالي: "إنت إزاي بتعدي النيل للبر التاني؟ فرد الرجل: بالمعدية يا ريس، ليعلق الرئيس الذي وقعت في عهده كارثة الألف غريق في البحر الأحمر، ضاحكا: "اوعى تكون عبارة م اللي بيغرقوا دول".

ثم يلفت إلى تصريح "يا راجل.. كبر مخك"، والذي رد به مبارك على تساؤل أحد أعضاء الحزب الوطني عن غياب البحث العلمي، ليقول ببساطة: "انت فاكر يعني هقعد أفر كل حاجة ف البلد؟"!

ولم تترك النكت والسخرية مبارك حتى في ميدان الثورة التي قامت على نظامه، وقبل ذلك من خلال كتابات الصحفيين الساخرين في الصحف، قبل أن تأخذ شكلاً مغايرًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي في شكل "كوميك" مبتكر وطريف يصلح للتعليق على أي حدث.

ولعلها من أواخر النكت السياسية الذكية عن مبارك تلك التي قيلت على خلفية دخوله المستشفى إبان محاكمته بعد الثورة، والتي تحكي عن رجل "بلدياته" زاره في المستشفى: "والله يا ريس أنا بعت القيراطين اللي حيلتي عشان أوظف الواد ابني، وبرده متوظفش. رد مبارك: انت تحمد ربنا، أنا بعت مصر كلها عشان أوظف ابني ومتوظفش".