< الدرس الخطأ من ثلاثينيات القرن الماضي.. هل يكرر ترامب سياسة الاسترضاء؟
الرئيس نيوز
رئيس التحرير
شيماء جلال

الدرس الخطأ من ثلاثينيات القرن الماضي.. هل يكرر ترامب سياسة الاسترضاء؟

الرئيس نيوز

يثير توجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في السياسة الخارجية جدلًا واسعًا، لا سيما عندما يدفع باتجاه تسويات تفاوضية للحرب الروسية–الأوكرانية، أو يتخذ موقفًا متحفظًا تجاه تايوان. ويرى منتقدوه في ذلك تراجعًا خطيرًا عن مبدأ الردع، فيستدعون فورًا تجربة سياسة الاسترضاء البريطانية في ثلاثينيات القرن الماضي، التي انتهت بكارثة الحرب العالمية الثانية. غير أن قراءة تاريخية أكثر تماسكًا، ومقارنة واقعية بالظروف الدولية الراهنة، تكشف أن هذه المقارنة ليست حتمية، وأن ما يُدان اليوم بوصفه ضعفًا قد يكون محاولة واعية لإعادة ضبط توازن القوى العالمي، وفقا لتحليل نشرته مجلة مودرن دبلوماسي.

وينظر إلى اتفاق ميونيخ عام 1938 باعتباره الدليل القاطع على فشل الاسترضاء، حين قبلت بريطانيا التضحية بتشيكوسلوفاكيا أملًا في وقف التوسع النازي. غير أن هذا السرد يتجاهل السياق الاستراتيجي آنذاك. فقد كان رئيس الوزراء نيفيل تشامبرلين يدرك محدودية القدرات العسكرية البريطانية، ولذلك سعى عمدًا إلى كسب الوقت لإعادة بناء سلاح الجو. وقد أسهم هذا القرار لاحقًا في تمكين بريطانيا من الصمود في معركة بريطانيا، ما يُظهر أن الاسترضاء لم يكن استسلامًا، بل أداة مؤقتة ضمن استراتيجية أوسع.

وعلى الضفة المقابلة، يذكر رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل عادة بوصفه رمز الحزم والصلابة، إلا أن مسيرته السياسية لم تخلُ من إخفاقات. فقد دخل صراعات داخلية استنزفت رصيده السياسي، وأخفق بعد الحرب في قراءة التحولات الاجتماعية داخل بريطانيا. والمفارقة أن تشامبرلين، الذي يُتهم غالبًا بالضعف، اقترب عمليًا من منطق «الاحتواء»، وهو المنطق الذي ستتبناه الولايات المتحدة لاحقًا خلال الحرب الباردة بنجاح ملحوظ.

وقد قام مبدأ الاحتواء، كما صاغه جورج كينان، على الجمع بين الردع والتفاوض والأدوات الاقتصادية، لا على المواجهة العسكرية المباشرة وحدها. فقد استخدم الاقتصاد كوسيلة لتقييد السلوك العدائي عبر خلق مصالح داخلية تدفع نحو الاستقرار. غير أن الخطأ التاريخي تمثّل في الخلط بين توظيف التجارة كأداة استراتيجية، وتركها تعمل وفق منطق الربح المجرد، وهو ما أضعف فعاليتها السياسية على المدى الطويل.
 

ومن هذا المنطلق، يمكن فهم سياسة ترامب تجاه الصين. فبدل الاستمرار في الرهان على أن الانخراط الاقتصادي سيقود تلقائيًا إلى انفتاح سياسي، اتجه إلى تقليص الاعتماد الاقتصادي المتبادل. وقد أدت هذه السياسة إلى إبطاء وتيرة الصعود الصيني، وإلى إعادة توسيع الفجوة بين الاقتصادين الأمريكي والصيني، الأمر الذي خفف من مخاطر انتقال القوة، وهو العامل الذي ارتبط تاريخيًا باندلاع الحروب الكبرى.
 

ويمتد هذا المنطق ذاته إلى التعامل مع روسيا وإيران وكوريا الشمالية. فبدل دفع هذه الدول نحو تماسك كامل في محور واحد عبر سياسات صدامية شاملة، تقوم الاستراتيجية على تفكيك هذا التماسك عبر التفاوض الانتقائي واستغلال التناقضات الجيوسياسية بينها. 

 

وقد أثبت التاريخ أن هذا النهج يمكن أن يكون فعالًا، كما حدث عندما تحولت الصين في سبعينيات القرن الماضي إلى خصم استراتيجي للاتحاد السوفيتي.
 

وفي عالم اليوم، حيث تتشابك الترسانات النووية ويصبح أي صدام واسع كارثيًا على الجميع، تفرض الواقعية السياسية نفسها. فالتفاوض، مهما بدا مكلفا أخلاقيًا، يظل أداة لتقليل المخاطر الكبرى. ولا يعني التفاوض التخلي عن الردع، بل استخدامه بحساب، كما أثبتت اتفاقات الحد من التسلح التي ساهمت في إنهاء الحرب الباردة أكثر مما فعل سباق التسلح وحده.
 

ولا يقف ترامب أمام خيار سهل. فهو إما أن ينزلق إلى مواجهات عالمية متعددة الأطراف، أو أن يحاول إعادة إنتاج دبلوماسية توازن دقيقة، تشبه من حيث الجوهر ما سعى إليه تشامبرلين، لا بروح الاسترضاء الساذج، بل بمنطق إدارة القوة والوقت. والدرس الحقيقي من ثلاثينيات القرن الماضي لا يتمثل في رفض التفاوض، بل في رفض الأوهام. وبين الردع الأعمى والاسترضاء الأجوف، قد يكون المسار الوسط، القائم على تفكيك الخصوم بدل توحيدهم، هو الخيار الأقل كلفة في عالم يقف على حافة الانفجار.