< "يوميات سجين".. ساركوزي يحاول وضع نفسه في مصاف العظماء والمظاليم بكتاب جديد
الرئيس نيوز
رئيس التحرير
شيماء جلال

"يوميات سجين".. ساركوزي يحاول وضع نفسه في مصاف العظماء والمظاليم بكتاب جديد

الرئيس نيوز

في مشهد نادر الحدوث، جمع بين السياسة والأدب والسخرية السوداء، خرج الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي من تجربة سجنه القصيرة، التي لم تتجاوز عشرين يومًا، بكتاب في محاولة مكثفة لإعادة صناعة وترميم صورته أمام الرأي العام.

وذكرت مجلة نيويوركر الأمريكية أن كتابه الجديد بعنوان "يوميات سجين" ليس مجرد مذكرات خلف القضبان، بل هو مشروع للدفاع عن الذات، وسعي واضح لوضع الذات في مصاف الضحايا التاريخيين، من ألفريد دريفوس، ضحية مؤامرات قضائية في القرن التاسع عشر إلى… يسوع المسيح، بحسب ما يوحي به النص والاختيارات اللفظية الرمزية التي يتعمدها ساركوزي.

ودخل ساركوزي سجن «لا سانتيه» في باريس بعد إدانته في قضية تمويل انتخابي، لكنه لم يمكث طويلًا. دخل في 21 أكتوبر وخرج في 10 نوفمبر بإفراج مشروط لحين الاستئناف. لكن قصر المدة لم يمنعه من تقديم التجربة بوصفها محنة وجودية، وزلزالًا نفسيًا، واختبارًا أخلاقيًا يعيد صياغة الإنسان. 

كتب الكتاب بخط اليد، في نوبات طويلة من الكتابة، جالسًا على كرسي غير مريح، خلف مكتب واهن، داخل زنزانة لا تتجاوز مساحتها أثني عشر مترًا مربعًا. كل تفصيلة هنا محسوبة: الجسد المتعب، والزمن الثقيل، والعزلة التي تُضخم لتصنع معنى أكبر من الواقع، بعبارات مصطنعة كتبت عمدا.

وفي فرنسا، لم يُقابل الكتاب بالترحيب الذي يبدو أن مؤلفه كان يتوقعه. على العكس، تحوّل إلى مادة للتندر والسخرية على وسائل التواصل الاجتماعي. عشرون يومًا فقط، لكن صاحبها يتحدث كما لو أنه قضى عمرًا في سجن شاتو ديف الرهيب.

وامتلأت منشورات السوشيال ميديا بالمقارنات الساخرة مع محنة نيلسون مانديلا، أو وصفه بأنه "نسخة رخيصة من سولجنيتسين"، ما كشف فجوة واسعة بين نبرة الكتاب واستقبال الجمهور له. هذه الفجوة بالذات هي ما يجعل "يوميات سجين" مادة سياسية بامتياز، لا مجرد كتاب.

ويصر ساركوزي على براءته الكاملة، ويرى نفسه ضحية مؤامرة معقدة، أبطالها قضاة، وصحافة استقصائية، وخصوم سياسيون، وشيء مجرد يسميه "الكراهية". 

وفي كتابه يبدو الرئيس الفرنسي الأسبق بطلا سلبيا، لا يفعل شيئًا سوى الاستسلام للمقادير. فالأبواب تغلق، والأصفاد تحكم، والأقدار تتآمر. حتى لحظة دخوله السجن يرويها بنبرة تأملية، كأنها مشهد من فيلم، لا نتيجة مسار طويل من الاتهامات والأحكام القضائية.

وداخل الزنزانة، يحرص ساركوزي على إبراز التناقض الصارخ بين هويته السابقة وهويته الجديدة: من رئيس للجمهورية في قصر الإليزيه إلى سجين يحمل رقمًا. المفارقة هنا ليست جديدة في أدب السجون، لكنها عنده تتحول إلى شكوى نرجسية أكثر منها تأملًا اجتماعيًا. السرير غير مريح، والمرآة منخفضة، والدش غير ملائم، والطعام لا يحتمل. ومع ذلك، هناك جهاز تلفزيون، وجهاز مشي، وثلاجة صغيرة، وحراسة خاصة. هو سجن، نعم، لكنه سجن "مخفف"، لا يشبه ما يعرفه معظم النزلاء.

يحاول الكاتب إظهار نفسه إنسانًا حساسًا، وزوجًا مشتاقًا، وأبًا وجدًا يتألم للفراق. وفي كتابه يجد القارئ زوجته كارلا بروني حاضرة كظل دائم، والغياب عنها هو الأشد قسوة في التجربة. تصل الزهور يوميًا إلى منزل ساركوزي، موقعة باسم "إدمون دانتيس"، بطل رواية "الكونت دي مونت كريستو" المسجون ظلمًا. والرمز هنا فاضح: ساركوزي يرى نفسه وريثًا لهذا البطل، سجينًا بريئًا ينتظر لحظة الانتقام العادل.

كما أن القراءات التي يصطحبها معه ليست بريئة هي الأخرى: سيرة للمسيح، رواية عن السجن والانتقام، بعض الفلسفة، وقليل من الروحانيات. في لحظة ما، يعلن عن صحوة دينية مفاجئة، ويتحدث في مذكرات السجن عن الصلاة، والركوع، وحديث عن العناية الإلهية، يصل أحيانًا إلى حد تفسير بث مباراة كرة قدم في ليلته الأولى بالسجن كعلامة من السماء، لكن التحول الروحي هنا يبدو أقرب إلى ملاذ نفسي منه إلى قناعة فكرية عميقة.

لكن التحول الأهم، والأخطر، ليس دينيًا بل سياسي. وسط السرد، يكشف ساركوزي عن تخليه عن "الجبهة الجمهورية" التي كانت تجمع أطياف السياسة الفرنسية لمنع اليمين المتطرف من الوصول إلى الحكم. ويعلن، بلا مقدمات كافية، أنه لن يقف بعد الآن ضد مارين لوبان وحزبها. هذا التصريح، الذي مرره وسط اليوميات، يشكل قنبلة سياسية حقيقية، ويفتح الباب أمام تحالف غير مسبوق بين يمين تقليدي ويمين متطرف، في لحظة تاريخية دقيقة.

ووفقا للنقاد، فإن الكتاب، من الناحية الأدبية، يعاني من الترهل والتكرار، والإفراط في تعداد الأسماء، والميل إلى الخطابة. لكنه، من الناحية السياسية، وثيقة كاشفة. هو مرآة لذهنية زعيم سابق يرفض الاعتراف بالمسؤولية، ويعيد تأطير الإدانة بوصفها اضطهادًا، ويحول السجن من نتيجة أفعال إلى وسام أخلاقي.

وتضيف شبكة “سي إن إن”: البعد البروتوكولي والسياسي المحيط بتجربة ساركوزي. فالرئيس الأسبق، وفق روايته، تلقّى بعد إدانته الرسمية دعوة إلى قصر الإليزيه، حيث اقترح عليه الرئيس إيمانويل ماكرون الانتقال إلى سجن آخر والإقامة في شقة مخصّصة لعائلات السجناء، وهو عرض يقول إنه رفضه. 

وخلال فترة سجنه، استقبل زيارات مثيرة للجدل، من بينها زيارة وزير العدل الحالي جيرالد دارمانان، ما فجّر انتقادات حادة في الداخل الفرنسي، إضافة إلى اتصالات ورسائل دعم من قادة ودبلوماسيين حول العالم. وفي مقابل هذا المشهد الرسمي، لا يغفل ساركوزي عن تفصيل جسدي مباشر، حين يصف الفراش في زنزانته بأنه "الأكثر قسوة فلم أشعر بمثله في حياتي، حتى خلال خدمتي العسكرية"، مضيفًا أن الطاولة كانت أكثر لينا من الفراش، في جملة تكثف رغبته في تحويل الإحساس الجسدي بالخشونة إلى دليل على قسوة التجربة. والأكثر لفتًا كان طلب السفير الأمريكي في باريس، تشارلز كوشنر—الذي سبق أن قضى عقوبة سجن قبل أن يُعفى عنه رئاسيًا—لقاء ساركوزي للمرة الأولى داخل السجن. 

كما تكشف "سي إن إن" عن حجم الامتيازات الواقعية التي أحاطت بتجربته: لقاءات منتظمة مع عائلته وجهًا لوجه كل يومين تقريبًا، سيل غير مسبوق من رسائل الدعم والبريد المعجب، شمل عشرات النسخ من الكتب المقدسة والروايات، حتى أن إدارة السجن أرهقت من كثافة المراسلات. ورغم إصراره في الكتاب على أن نزلاء جناح العزل "لا يراهم أحد ولا يلتقيهم أحد"، ترسم هذه التفاصيل صورة أكثر تعقيدًا: فقد كان سجينا يتمتع بمعاملة استثنائية، ويخرج من محنته محاطًا بنفس الموكب من الشرطة والإعلام والمؤيدين الذي رافقه عند دخوله، ما يجعل خاتمته الواقعية أبسط مما يريد لها أن تكن؛ فقد دخل السجن مدانًا، وخرج منه مدانا، لا جديد.