< الفتح العثماني الجديد.. عام على صعود النظام السوري الانتقالي تحت النفوذ التركي
الرئيس نيوز
رئيس التحرير
شيماء جلال

الفتح العثماني الجديد.. عام على صعود النظام السوري الانتقالي تحت النفوذ التركي

الرئيس نيوز

مرّ عام كامل منذ سقوط حكومة بشار الأسد في دمشق، لتدخل سوريا مرحلة جديدة من التحولات والصراعات المعقدة تحت تأثير مباشر من تركيا، التي برزت بوصفها اللاعب الأساسي والقوة المسيطرة على مسار الأحداث السورية. 

ويبدو أن أنقرة، بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، لم تعد مجرد طرف خارجي مؤثر، بل أصبحت المهندس الاستراتيجي للنظام السوري الجديد، معتمدة على نموذج سياسي وعسكري مستوحى من الإرث العثماني القديم يعرف بـ"نظام الدولة العميلة الجديد". 

هذا النموذج يقوم على استخدام وكلاء محليين وقوى متحالفة لتنفيذ الاستراتيجيات التركية في سوريا، ما يمنح أنقرة القدرة على التحكم بالمشهد من دون الحاجة إلى استنزاف القوات التركية مباشرة، مع إبقاء جماعات الوكلاء في مواقع القوة المؤقتة، وقابلة للتضحية بها على الفور إذا دعت الضرورة، وفقا المحلل السياسي جاك دولجاريان، في دراسة نشرتها مجلة العلاقات الدولية البريطانية.

ويضيف دولجاريان: "تاريخيًا، يعتمد هذا النموذج على استراتيجيات عثمانية قديمة، حيث استخدمت الإمبراطورية مجموعات عسكرية غير تركية مثل التتار والألبان والجانيساريين للدفاع عن الأراضي وشن الحملات التوسعية، مع تزويدهم بالعتاد والتمويل. وقد أثبتت هذه الاستراتيجية فاعليتها في حماية الأراضي وتوسيع النفوذ، وقد أُعيد تطبيقها في سياقات حديثة مثل ليبيا والعراق، وصولًا إلى سوريا، حيث يمثل نجاح تركيا في دمشق القمة الحالية لهذا النموذج.

وفي دمشق، تولّت جماعة "هيئة تحرير الشام" السيطرة بعد سقوط الأسد، وتحول زعيمها أبو محمد الجولاني إلى رئيس سوري انتقالي باسم أحمد الشرع، مستغلًا الدبلوماسية لإقامة علاقات مع الدول العربية والغربية ورفع العقوبات تدريجيًا. 

وعملت تركيا على دعم هذه الإدارة الجديدة اقتصاديًا وسياسيًا، بما في ذلك تبادل الطاقة والبنية التحتية، وتعليم اللغة التركية في المدارس في المناطق الخاضعة لسيطرة الهيئة، فضلًا عن قبول الليرة التركية في بعض المعاملات المالية. كما قدمت أنقرة دعمًا عسكريًا مباشرًا عبر ضربات جوية ومدفعية واستشارات تكتيكية، ما يعكس استراتيجية تركيا لتوطيد نفوذها تدريجيًا دون الظهور كطرف مسيطر بالكامل.

ومع ذلك، لا تخضع "هيئة تحرير الشام" بالكامل للسيطرة التركية، بل تمتلك الجماعة أهدافها الخاصة، وتسعى لاستعادة الشرعية والسيادة ضمن الحدود التاريخية لسوريا. لكن واقع القوة يجعل اعتمادها على تركيا أمرًا حتميًا لضمان السيطرة على منافسيها وحلفائها، وتنظيم الجيش الجديد، وتسهيل التنسيق العسكري والدبلوماسي مع إسرائيل وروسيا والولايات المتحدة، الذين لهم وجود مباشر ضمن الأراضي السورية.

وتشمل التحديات الرئيسة استمرار وجود قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكيًا في شمال شرق سوريا، ما يشكل نقطة توتر أساسية بين أنقرة و"الهيئة"، خصوصًا في إطار رغبة تركيا في القضاء على حزب العمال الكردستاني وامتداد نفوذ قوات سوريا الديمقراطية. 

وفي الجنوب، يبقى الوضع مستقرًا نسبيًا بوجود القوات الإسرائيلية كحاجز، مع استمرار قوة مسلحة من الدروز كطرف ثالث يوازن النفوذ ويحد من تصاعد الصراعات. أما الأقليات العلوية والمسيحية، فلا تتمتع بدعم خارجي فعّال، وتظل تحت رحمة النظام الجديد و"الهيئة" لضمان الأمن النسبي، وهو واقع يثير الكثير من المخاوف حول الاستقرار طويل الأمد.

وعلى الصعيد الدولي، يمثل "نظام الدولة العميلة الجديد" نسخة متطورة من السياسة العثمانية التقليدية، حيث يمكن لتركيا إدارة أزمات الحرب الحديثة عبر وكلاء محليين، مستفيدة من الفراغات القانونية والدبلوماسية، ومتجنبة الصدام المباشر مع القوى الكبرى، ما يعزز مكانتها الإقليمية ويتيح اختبار وتطوير تكتيكات عسكرية فعالة. 

وأظهر هذا النموذج فعاليته أيضًا في دول حليفة لتركيا مثل أذربيجان، التي استخدمت مرتزقة سوريين في النزاعات الإقليمية، مستلهمة التاريخ العثماني من "فرقة السلطان مراد" خلال حرب ناجورنو كاراباخ الثانية (الحرب التي استمرت 44 يومًا).

وتدخل سوريا في الوقت الراهن فصلًا جديدًا من الصراعات، حيث يظل مستقبلها محاطًا بعدد هائل من المتغيرات، من تدخلات القوى الكبرى إلى صراعات الوكلاء المحليين، بما في ذلك ملفات الطاقة والأمن والطائفية، مع غياب نهاية واضحة لهذه الحقبة. 

وفي هذه البيئة المعقدة، يظل "الفتح العثماني الجديد" نموذجًا عمليًا لسياسة النفوذ التركية، قادرًا على تشكيل موازين القوى في سوريا والمنطقة، ومؤشرًا على عودة الأساليب التقليدية للسياسة الخارجية التركية إلى قلب الصراعات الحديثة.