< د. هاني زويل: عدت إلى مصر لتوثيق تاريخنا الموسيقي في إطار فلسفي (حوار)
الرئيس نيوز
رئيس التحرير
شيماء جلال

د. هاني زويل: عدت إلى مصر لتوثيق تاريخنا الموسيقي في إطار فلسفي (حوار)

الرئيس نيوز

الدكتور هاني زويل في حوار لـ"الرئيس نيوز":

  • الموسيقى العربية فقدت عمقها المقامي.. واختفى نحو 86 مقاما من تراثنا
  • التحليل الرياضي يثبت أن الموسيقى العربية أكثر تعقيدًا من الغربية
  • التكنولوجيا ليست عدوًا للموسيقى.. والروح الفنية يسكنها الإنسان وليس الآلة
  • المقامات العربية تحمل أسرارًا فلسفية تكشف علاقتنا بالزمن والكون
  • الفنان مهدد بأن يتحول إلى "صوت مبرمج".. وبيع البصمة الصوتية خطر على روح الفن
  • الموسيقى ليست سحرًا غامضًا.. إنها علم دقيق يجمع بين الرياضيات والفيزياء والفلسفة
  • تراث الفارابي والكندي يمنحنا مفاتيح لفهم الهوية الموسيقية حتى اليوم
  • الراب الأمريكي جزء أصيل من هويتي الفنية.. وما زلت أكتشف المشهد المصري 
  • أتابع تامر حسني لأنه يمزج الموسيقى الشرقية بالإسبانية 
  • رحلتي الموسيقية انتقلت من الكمان إلى الراب.. وكل محطة صنعت أسلوبي الخاص

في حوار خاص مع “الرئيس نيوز”، يكشف الباحث الموسيقي هاني زويل، نجل العالم الراحل د. أحمد زويل، عن رحلته الاستثنائية بين الفلسفة والموسيقى، وسبب عودته إلى مصر بعد سنوات من الدراسة في أعرق الجامعات الأمريكية. 

زويل، المتخصص في علم موسيقى الشعوب، يتحدث بشجاعة عن الهوية الموسيقية العربية وتراجع ثراء المقامات، ويشرح كيف أثبتت أبحاثه أن الموسيقى العربية تحمل مستوى مذهلًا من التعقيد الرياضي لا يقل عن الموسيقى الغربية.

وفي حوار مليء بالتحليل والذكريات، يعود زويل إلى طفولته مع الكمان، ويتوقف عند محطات الراب والجيتار الإسباني، ويطرح رؤيته لمستقبل الموسيقى في زمن الذكاء الاصطناعي، مؤكدًا أن الروح لا تُستنسخ، وأن التكنولوجيا لا يمكن أن تحل محل الإنسان مهما تقدمت.

إل نص الحوار.. 

بداية.. ما السر وراء عودتك إلى مصر والاستقرار هنا من جديد؟

الحقيقة أن السبب الأساسي لعودتي استكمال الدكتوراه الخاصة بي في علم موسيقى الشعوب، هذا التخصص يتطلب أن يختار الباحث بلدًا يدرس موسيقاها بعمق، وبطبيعة الحال اخترت مصر، فجذوري وذاكرتي وانتمائي إليها، وجئت لأجمع المادة العلمية وأُنجز أبحاثي، ولأعيش الموسيقى التي أكتب عنها.

لماذا اتجهت لدراسة الموسيقى تحديدًا وليس مجالًا آخر؟

الموسيقى كانت شغفي منذ الصغر، كان هناك دائمًا أشخاص يساعدونني ويضعون الآلات في يدي، وكل خطوة كانت تقودني للأخرى، ومع الوقت اكتشفت أن للموسيقى جانبًا علميًا عميقًا يمكن دراسته وتحليله، فقررت أن أقدم نفسي للمجال من زاوية علمية ومنهجية.

هل كان في العائلة من يشاركك هذا الشغف بالموسيقى؟

بالطبع، والدي – رحمه الله – كان يحب الموسيقى بشدة، وأنا وأخي كنا نعزف الكمان في طفولتنا، لكنني كنت الوحيد الذي قرر أن يغوص في الطريق للنهاية.

متى شعرت لأول مرة بارتباطك بآلة العود؟

بحكم نشأتنا في الغرب، لم تكن آلة العود موجودة من الأساس في محيطنا، لكنها كانت مرتبطة بجذوري وذاكرتي العربية، وبين صوت أم كلثوم ونغمات التراث، بدأت أقترب منه شيئا فشيئًا حتى تعلق قلبي به وتعلمته.

درست في UC Berkeley واحدة من أهم الجامعات عالميًا. ما أبرز التحديات التي واجهتك هناك؟

المنافسة كانت شرسة، جميع الطلاب على مستوى علمي استثنائي، البيئة نفسها تدفعك لأن تكون دائمًا في أفضل حالاتك، من كتابة الأبحاث إلى التقديم العلمي والـ Grants وغيرها، الجو كان محفزا لكنه صعب، لأنه يضعك في سباق دائم مع الأفضل.

لماذا اخترت تخصص الموسيقى في العصور الوسطى تحديدًا؟

انجذبت دائمًا للفلسفة والعلوم القديمة، وكنت أريد دراسة اليونان القديمة واللغة اليونانية، مع الوقت اكتشفت أن نظريات الفارابي والكندي وابن سينا وغيرهم لا تزال قوية وصالحة للبحث حتى اليوم، فأردت أن أفهم كيف تشكل الفكر الموسيقي في تلك العصور وكيف تطورت نظرياته.

هل الهوية الموسيقية العربية ما زالت صامدة كما كانت؟

إلى حدٍ ما نعم، وإلى حدٍ ما لا، ما زلنا نستخدم المقامات، لكننا – مع الزمن – بسّطنا كثيرًا من ثرائها، فمثلا في القرن التاسع عشر كان لدينا نحو 95 مقامًا وفق حسابات ميخائيل مشاقة، واليوم نتعامل مع 9 فقط، التطور التكنولوجي، ودخول الآلات الغربية، جعل الموسيقى العربية أكثر عالمية لكنها فقدت جزءًا من عمقها المقامي القديم.

هل تتابع الموسيقى الحديثة في العالم العربي؟

أتابع، لكني لست مع الترندات، تربيت أكاديميًا على تراث أم كلثوم، والقصبجي، والسماعي، والبشرف، ومع إقامتي في مصر بدأت أكتشف أصواتًا جديدة، أحب مثلًا الفنانين الذين يمزجون الطابع الإسباني في موسيقاهم.

من الفنانين الحاليين لفت انتباهك؟

أحب من يدمج اللون الإسباني في العزف، ربما لأنني متخصص أيضًا في الجيتار الإسباني، وهناك أسماء عديدة، لكني خارج دائرة الترند، فأتابع دون انخراط كبير في السوشيال ميديا، وتقريبا أجد تامر حسني يفعل ذلك في أغنياته.

درست العلاقة بين الجسد والروح في الفلسفة الإسلامية من زاوية موسيقية.. كيف جمعت هذا الربط؟

الفلاسفة هم من صنعوا هذا الربط، وليس أنا، بدأ الأمر مع أفلاطون وحوار «فيدو»، ثم انتقل عبر الترجمات إلى الفكر العربي، إسحاق الكندي كان أول من قدّم نظرية موسيقية فلسفية في القرن التاسع، شرحت فقط كيف تطوّر هذا التفكير عبر التاريخ.

هل تختلف الحالة الروحية للاستماع بين الشرق والغرب؟

هناك رأيان: الباحث علي جهاد راسي يقول إن الموسيقى الغربية عقلية، بينما الشرقية عاطفية، الأولى تتعامل مع البناء، والثانية مع الإحساس والطرب.

أما أنا فأرى الأمر عالميًا: الموسيقى في جوهرها نسب رياضية تولد الإحساس، وهي لغة واحدة وإن اختلفت الثقافات.

ثلاثة أسماء: ناصر موسى، سكوت ماركوس، دوايت رينولدز.. من الأكثر تأثيرًا فيك؟

كل واحد منهم لمس جانبًا مختلفًا داخل روحي، ناصر موسى أثر فيّ روحيًا، سكوت ماركوس أثّر في عقلي بمنهجه العلمي الدقيق في المقامات، ودوايت رينولدز كان سندًا كبيرًا في مساري الأكاديمي خاصة في العصور الوسطى، تكويني الفني والفكري نتيجة الثلاثة معًا.

هل تتذكر أول ذكرى موسيقية محفورة في ذاكرتك؟

الحقيقة إن أول ذكرياتي كلها مرتبطة بالكمان، بدأت أعزف وأنا عندي خمس سنين، وكنا بناخد الدروس في ولاية كاليفورنيا، في الدور السفلي “Basement”، كنا بنروح ونعزف حاجات بسيطة جدًا، فذكرياتي الأولى كلّها مرتبطة بتعلّم الكمانجة.

هل كانت الكمانجة أقرب آلة لقلبك؟

بصراحة.. لأ، بعد ست سنين كاملة شعرت إن الكمان مش طريقي، وصلت لمرحلة قلت فيها: الموضوع ده مش هيطلع من إيدي، فقررت أغيّر، وكانت أول محطة بعد الموسيقى الأكاديمية هي موسيقى الراب.

لدينا رابرز مصريين حققوا نجاحات في السنين الأخيرة.. هل تابعتهم؟

حقيقة، ما تربيت عليه هو الراب الأمريكي، في أمريكا الراب جزء من الهوية نفسها، تربينا على TUPAC، Eminem، 50 Cent، هذا الجيل كله يمثل التاريخ الحقيقي للراب بالنسبة لجيلي اللي اتربى هناك، أما الراب المصري فأنا لسه بتعرّف عليه بالتدريج.

ما هي الأغنية أو التراث المصري الذي تأثرت به؟

أكيد أم كلثوم، وفريد الأطرش، التراث ده محفور جوايا، أنا كمان كنت جزء من فرقة موسيقية عربية في كاليفورنيا، وهذا ساعدني أتعمّق في عدد كبير من الأغاني العربية الكلاسيكية.

ما علاقة ظاهرة الفراكتلز بالموسيقى العربية؟ وهل فعلًا هناك ارتباط بينهم؟

هذا سؤال محتاج شوية تشريح، لو تسمح لي..

الفراكتلز أصلًا مفهوم رياضي، لو أخدت صورة لشيء وعملت Zoom عليه تلاقي نفس الـPattern متكرر، تكبّر أكتر، نفس الشكل، وهكذا، ده جزء من الديناميكا غير الخطية في الفيزياء، الطبيعة مليانة فراكتلز: ندفات الثلج، أشكال النباتات، مسارات النمو، وهكذا.

في السبعينيات اتنين باحثين: Voss و Clarke، قالوا: طب ما نشوف لو الفراكتلز دي موجودة كمان في الفن، وبدؤوا يدوروا في الموسيقى الغربية: الكلاسيك، البوب، ولاحظوا وجود سلوك رياضي معقد يظهر في بناء الجمل الموسيقية.

اللي شدّني بقى: ليه الموسيقى الغربية يكون فيها هذا التعقيد الرياضي؟ وهل الموسيقى العربية – بمقاماتها وتفاصيلها – تخلو منه؟، ولذلك عملت أبحاث، وحلّلت مقامات مصرية وعربية، ورسمت Graphs، وكانت النتيجة أن الموسيقى العربية فيها نفس مستوى الـComplexity الرياضي الموجود في الموسيقى الغربية، ويمكن أكتر، وده كان اكتشاف مهم جدًا بالنسبة لي.

حاليا صناعة الأغنية أصبحت شبه إلكترونية والكثير يراها قتل للروح.. فماذا عن رأيك هل ذلك يعد تطورا أم تراجعا؟

الموضوع ليس أبيض وأسود، التكنولوجيا أداة، زي أي آلة، لو استخدمتها علشان تختصر الطريق وتقلل القيمة، هتطلع موسيقى بلا روح، ولو استخدمتها علشان تفتح آفاق جديدة، هتلاقي نفسك قدام عالم موسيقي مدهش.

القضية مش في “إلكتروني ولا أكوستيك”، القضية في الفكر اللي ورا الموسيقى، في حد بيستخدم التكنولوجيا لأنها أسهل، وفي حد بيستخدمها لأنها بتفتح له مجال يبتكر ويضيف، وفي النهاية الروح مش في الأداة، الروح في الفنان.

دلوقتي دخلنا في عصر Suno AI — لو سامع عنه — مجرد إنك تكتبله: “عايز موسيقى عربي بوب مع جيتار“ يدّيك لحن كامل خلال 3 ثواني، حاجات ناس كانت بتقعد سنين تدرسها وتشتغل عليها، بقت بتطلع بضغطة زر، والموضوع ما وقفش هنا، شركات زي Warner Brothers شغالة على إنها تخليك تعمل موسيقى بصوت فنان معين: “اكتبلي أغنية بصوت Bruno Mars“، وخلاص، بينفّذ.

بعض الفنانين المصريين بيفكروا يبيعوا بصمة صوتهم لشركات.. بحيث لو توفّوا تفضل أغاني جديدة بتنزل بأصواتهم.. شايف ده إزاي؟ 

ده نفس اللي بيحصل في أمريكا حرفيًا، فنانين بيبيعوا البصمة الصوتية لشركات الـ AI، وبعدها أي حد يقدر يولّد أغنية بصوتهم، فالسؤال: فين الروح؟ سؤال عميق جدًا، لأن جزء من إحساسنا كبشر إن الصوت ده “حقيقي“ خارج من إنسان قدامك، مش من خوارزمية.

أنا شايف إن الـ AI ممكن يكون “لعبة“، “Fun App“ حاجة استخدامها ممتع، لكن الروح الإنسانية ما زالت موجودة في الفنان اللي بيقف ويغني ويحس ويعبر، وده اللي لسه الآلة مش هتعرف تعمل زيه بنفس الصدق.

هل تعتبر الطرب ظاهرة روحية وموهبة أم علم ودراسة؟

خليني أقول لك: الفارابي - صاحب كتاب الموسيقى الكبير - كان شايف إن كل مقام مرتبط بمعنى وإحساس، البياتي يخلق شجن، الصبا يخلق حزن، وهكذا، وده تفكير منطقي وفلسفي جدًا يعني “علم“، لكن في ناس تانية بتوصل لنفس النتائج بالإحساس فقط بدون ما تفكر فيها نظريًا، الفيلسوف دوره إنه يشرح اللي الناس بتحسه من غير ما تعرف تصفه.

هل تعتبر نفسك باحث أم موسيقي؟

أتمنى أكون موسيقي أكتر، لكن ربنا أداني عقل بحثي، الموسيقي الحقيقي عنده كاريزما وقدرة يمسّ الناس، أنا بحب الأكاديمية أكتر، لكن بحترم الفن جدًا.

هل تعتبر الموسيقى سحر أم علم؟

علم طبعًا، الموسيقى عبارة عن: فلسفة، رياضيات، نسب، حساب، فيزياء، زمن، تنظيم، إزاي ده يكون سحر؟، هو “علم“ كامل متكامل، حتى لو بيظهر لنا أحيانًا بشكل ساحر.

أخيرا.. هل يمكن أن نوثّق تاريخ الموسيقى العربية من منظور فلسفي؟

أكيد، الموسيقى مليانة أسئلة ميتافيزيقية، وهي بنفسها بتقدّم أجوبة، وده جمال المجال اللي بشتغل فيه، بحاول أوضح إزاي الموسيقى بتقدّم لنا: نظريات عن الزمن، نظريات عن المكان، نظرة عن نشأة الكون، وده نفس اللي كان بيقوله الكندي في القرن التاسع: الموسيقى تقدر تفسّر الكون بنفس مستوى الفلسفة والميتافيزيقا، وتعمل “جسر“ بين الأفكار الكبرى.