< من أين نشأ دعم الإنجيليين الأمريكيين لإسرائيل ولماذا تآكل؟
الرئيس نيوز
رئيس التحرير
شيماء جلال

من أين نشأ دعم الإنجيليين الأمريكيين لإسرائيل ولماذا تآكل؟

الرئيس نيوز

شكّل الدعم الإنجيلي الأمريكي لإسرائيل أحد أعمدة السياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط لعقود طويلة. هذا الدعم لم يكن مجرد موقف سياسي عابر، بل تأسس على عقيدة لاهوتية عميقة تُعرف بـ"الصهيونية المسيحية" وتعود جذورها إلى تحولات دينية شهدها القرن التاسع عشر، والتي ربطت قيام دولة إسرائيل عام 1948 بتحقيق نبوءات توراتية تمهد لعودة المسيح. قادة بارزون في هذا التيار، مثل القس جون هاجي وروبرت جيفريس، اعتبروا دعم إسرائيل واجبًا دينيًا لا يقبل المساومة، ما دفع الملايين من الإنجيليين إلى تبني هذا الموقف باعتباره جزءًا من إيمانهم المسيحي، وفقا لصحيفة جيروزاليم بوست.

انعكست هذه العقيدة في زيارات جماعية إلى القدس، وفي دعم مالي وسياسي واسع النطاق، بلغ ذروته خلال إدارة الرئيس دونالد ترامب، التي نقلت السفارة الأمريكية إلى القدس بدعم إنجيلي صريح. 

وفي عام ٢٠٢٥، اجتمع رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع ١٤ من أبرز القادة الإنجيليين في واشنطن قبل لقائه مع ترامب، في مشهد يعكس حجم التأثير الذي يتمتع به هذا التيار داخل دوائر صنع القرار الأمريكي.

لكن هذا المشهد بدأ يشهد تغيرًا تدريجيًا. دراسة نشرتها الصحيفة ذاتها أظهرت أن دعم إسرائيل بين الشباب الإنجيليين تراجع بنسبة تزيد عن ٥٠٪ خلال ثلاث سنوات فقط. هذا الانخفاض الحاد جاء نتيجة تراكمات سياسية وإنسانية، أبرزها مشاهد الحرب في غزة والانتهاكات بحق الفلسطينيين، التي باتت تُعرض على وسائل التواصل الاجتماعي دون فلترة، ما أثّر على الصورة النمطية التي كانت تُروّج لإسرائيل داخل الأوساط الإنجيلية.

وأشار الدكتور يوآف فرومر، مدير مركز دراسات الولايات المتحدة في جامعة تل أبيب، في تقرير أكاديمي إلى أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، خاصة في عهد نتنياهو، اعتبرت الدعم الإنجيلي أمرًا مفروغًا منه، وأهملت التواصل مع شرائح أخرى من المجتمع الأمريكي، بما في ذلك اليهود الليبراليون، ما أدى إلى تآكل تدريجي في قاعدة الدعم التقليدية.

ولم يقتصر التحول على الداخل الأمريكي، بل امتد إلى التيار الإنجيلي العالمي. الكاتب داود كتّاب أشار في مقاله المنشور على موقع "ميدل إيست آي" إلى تحول جذري داخل هذا التيار، إذ لم يعد النفوذ محصورًا في الغرب أو مرتبطًا بالدعم المطلق لإسرائيل كما كان في الماضي. اليوم، باتت الغالبية العظمى من المسيحيين الإنجيليين تعيش في دول الجنوب العالمي، مثل آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهي مناطق تميل في مواقفها إلى دعم الفلسطينيين والتعاطف مع معاناتهم.

وجسدت الجمعية العامة للتحالف الإنجيلي العالمي التي انعقدت في سيول، هذا التحول بوضوح، حيث كان أكثر من ٧٠٪ من المشاركين من دول الجنوب العالمي، مما يعكس التبدل الكبير في خريطة المسيحية العالمية. وخلال الاجتماع، ظهر العلم الفلسطيني بشكل بارز، ودعا المشاركون إلى الصلاة لأجل غزة والسودان، في تعبير عن نزعة جديدة تسعى إلى إعادة تعريف الهوية الإنجيلية كرسالة إنسانية وروحية، لا كأداة سياسية.

هذا التحول تجسّد أيضًا في قيادات الهيئات الإنجيلية، حيث تم انتخاب شخصيات من الجنوب العالمي في مواقع قيادية عليا. فقد تم تعيين السريلانكي جودفري يوغاراجا رئيسًا للتحالف الإنجيلي العالمي، والقس الفلسطيني بطرس منصور أمينًا عامًا، في مؤشر واضح على انتقال مركز الثقل داخل المسيحية الإنجيلية نحو العالم النامي. كما شهدت مؤسسات أخرى تغييرات مشابهة، مثل الاتحاد المعمداني الأوروبي الذي اختار قادة من لبنان والأردن، ما يعزز توجهًا جديدًا أكثر توازنًا وانفتاحًا على القضايا الإقليمية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا التبدل لا يقتصر على الجغرافيا أو القيادات، بل يمتد إلى المواقف السياسية والدينية. فدعم إسرائيل داخل الأوساط الإنجيلية، خاصة بين الشباب الأمريكيين، يشهد تراجعًا حادًا؛ إذ انخفضت نسبة المؤيدين لإسرائيل من ٧٥٪ عام ٢٠١٨ إلى ٣٤٪ عام ٢٠٢١، بحسب ما نقلته وكالة "ريليجن نيوز سيرفِس". حتى شخصيات مسيحية بارزة بدأت تنتقد السياسات الإسرائيلية علنًا، رافضة ربط الإيمان المسيحي بالدعم السياسي لتل أبيب، ما يعكس تغيرًا في الخطاب الديني نفسه.

وعلى المستوى السياسي، لطالما شكل الإنجيليون كتلة تصويتية قوية داخل الحزب الجمهوري، ما جعل دعمهم لإسرائيل يُترجم إلى سياسات ملموسة. لكن مع تراجع الحماس للدولة اليهودية وممارساتها  بين الشباب، بدأت جماعات الضغط الإسرائيلية تعيد حساباتها. وتشير تقارير إعلامية غربية عديدة إلى أن إسرائيل تضخ ملايين الدولارات سنويًا في جهود التأثير على الرأي العام الأمريكي، بما في ذلك الإنجيليون، عبر مؤتمرات، إعلام موجه، وشراكات مع الكنائس، في محاولة للحفاظ على هذا التحالف التاريخي.

ووسط تزايد الانقسام داخل المجتمع الإنجيلي، تجد إسرائيل نفسها مضطرة لإعادة تعريف تحالفاتها، خاصة مع صعود تيارات ليبرالية داخل الكنائس، تطالب بمواقف أكثر إنصافًا تجاه الفلسطينيين، وتدعو إلى فصل الدين عن السياسة الخارجية.

وتشير التحولات الديموغرافية والفكرية داخل التيار الإنجيلي، سواء في الولايات المتحدة أو على مستوى العالم، إلى تغير طويل الأمد في العلاقة مع إسرائيل. لم تعد هذه العلاقة تُبنى فقط على أساس النبوءات الدينية، بل باتت تخضع لمعايير إنسانية وأخلاقية جديدة، تعيد تشكيل الخطاب الإنجيلي العالمي، وتفتح الباب أمام مواقف أكثر توازنًا في التعاطي مع قضايا الشرق الأوسط.