القاهرة وتل أبيب على حافة اختبار جديد
في الإقليم الذي لا تنام فيه الحروب، تبدو القاهرة وتل أبيب أمام اختبار جديد في معادلة النار والهدوء؛ فوقف إطلاق النار في غزة، الذي تحقق بشق الأنفس، لم يُنهِ الأسئلة الكبرى، بل أعاد رسم خريطة الشكوك والرهانات في المنطقة.
مصر، التي أدارت الخيوط الصعبة بين الأطراف المتنازعة، تجد نفسها اليوم أمام مهمة أكثر تعقيدًا: تثبيت هدنة لا يريدها أحد أن تنهار، ومنع انفجار قد يمتد شرره إلى حدودها الشرقية.
سلام الضرورة لا العاطفة
منذ عقود، ظل السلام بين مصر وإسرائيل سلام الضرورة لا العاطفة؛ فمعاهدة 1979 التي نجت من حروب واغتيالات وانتفاضات، لم تصمد بلا كلفة.
اليوم تدخل العلاقة طورًا جديدًا بعد أن باتت غزة مرآةً تعكس عمق التناقضات بين الجانبين؛ فوقف النار لم يُبدّد الشكوك، بل كشف تراكمًا من الحذر والريبة.
تدرك القاهرة أن أي خلل في موازين الأمن داخل القطاع سيجد طريقه إلى سيناء، وتدرك تل أبيب أن دور الوسيط المصري لا غنى عنه، لكنه أيضًا لا يقبل التلاعب أو التجاهل.
حدود النار وحدود السلام
في سابقة غير مألوفة، استخدم الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال قمة الدوحة وصف "العدو" عند الإشارة إلى إسرائيل، في ردٍّ حازم على الغارات التي استهدفت مسؤولين من حركة حماس داخل الأراضي القطرية.
رسالة القاهرة وصلت بوضوح إلى تل أبيب: مصر لن تقف على مسافة واحدة من الجميع عندما يُمسّ أمنها القومي أو تُهدد حدودها.
ورغم حدّته، كان خطاب من يملك أوراق الضغط لكنه يعرف حدود المغامرة، من يلوّح بالتحذير دون أن يغلق أبواب الدبلوماسية؛ فقد أكد أن معاهدة السلام لا تزال قائمة، وأن القاهرة باقية في موقع الوسيط.
اختبار لصلابة الوساطة المصرية
العلاقة بين القاهرة وتل أبيب لم تعد خالية من التوتر؛ فحين طالب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو واشنطن بالضغط على مصر لوقف تعزيز وجودها العسكري في سيناء، بدا كأنه يختبر صبر الجار الأكبر.
ثم جاء تهديده العلني بملاحقة عناصر حماس في أي مكان، ليفتح بابًا جديدًا من القلق في القاهرة، فكان الرد حازمًا: أي استهداف لعناصر الحركة داخل الأراضي المصرية ستكون له عواقب مدمّرة.
ورغم هذا الاحتدام، ظل خيط المصالح قائمًا؛ فصفقة الغاز بقيمة 35 مليار دولار من حقل لفياثان إلى مصر تذكّر بأن الاقتصاد، لا السياسة، هو الحارس الأخير للعلاقات بين الطرفين.
لكن استمرار النشاط العسكري الإسرائيلي قرب حدود غزة يضغط على هذا التوازن الهش، ويفسّر تعزيز القاهرة لقواتها في شمال سيناء كرسالة مزدوجة: حماية الحدود وردع التجاوز.
سلام على حافة القلق
في الشرق الأوسط، لا تعيش المعاهدات بمعزل عن النيران؛ فكل هدنة مؤقتة تحتاج إلى حارس، ومصر اختارت أن تكون هذا الحارس رغم كلفة الدور.
إسرائيل تتوجّس من نفوذ حماس، ومصر تتوجّس من نوايا تل أبيب، وبينهما هدنة تُدار يومًا بيوم، ومصالح تُقاس بحجم الصبر والبراغماتية.
يدرك صانع القرار في القاهرة أن أي تصعيد على حدود غزة لا يهدد فقط الأمن الإقليمي، بل يضع معاهدة السلام نفسها على المحك.
لذلك، تعمل مصر بصمت على هندسة مرحلة ما بعد الحرب، عبر ضمانات أمنية وتفاهمات سياسية تُعيد ترتيب العلاقة بين تل أبيب والفصائل الفلسطينية، وتمنع انهيار الهدوء الذي تحقق بشق الأنفس.
اختبار ما بعد الهدنة
المشهد الحالي أشبه بهدنة فوق جمر، كل طرف يراقب الآخر بعدسة الريبة، فالقاهرة تعرف أن استمرار الهدوء مرهون بقدرة إسرائيل على كبح نزعتها العسكرية، وباستعداد الفصائل في غزة للانخراط في ترتيبات سياسية واقعية.
أما تل أبيب، فتدرك أن أي تجاوز للخطوط الحمراء المصرية سيعيد العلاقات إلى مربع الصدام، ويفتح الباب على فوضى لا يمكن احتواؤها.
ومع كل ذلك، يبقى استقرار العلاقة بين مصر وإسرائيل رهن الالتزام بالهدنة، والاعتراف المتبادل بمصالح كل طرف وحدوده؛ ففي هذا الإقليم، السلام لا يُوقَّع مرة واحدة، بل يُعاد اختباره كل يوم، بين ما يُقال في الغرف المغلقة وما يُفعل على الأرض.