الانتقام والثأر.. مقتل تشارلي كيرك يدخل الصراع بين اليمين واليسار الأمريكيين نفقا مظلما
لم تكن جريمة قتل الناشط اليميني المتطرف تشارلي كيرك في جامعة يوتا مجرد حادثة عابرة، بل تحولت في غضون ساعات قليلة إلى نقطة تحول خطيرة في الصراع السياسي على الساحة الأمريكية.
ففي بيئة مشحونة بالاستقطاب، استُغلت المأساة لتوجيه اتهامات فورية، دون انتظار الحقائق، وتحويل الضحية إلى أيقونة في حرب ثقافية تهدد بدفع البلاد إلى نفق مظلم من العنف والانتقام.
خطاب الثأر: من الهجوم الفردي إلى حرب شاملة
في الساعات التي تلت مقتل كيرك، وقبل أي تأكيد على هوية القاتل أو دوافعه، بدأ سيل من الاتهامات. كما أشار تقرير لـ "بروجيكت سنديكيت"، دعا العديد من الشخصيات البارزة في اليمين، وصولًا إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى القصاص من "اليسار المتطرف". وقد أظهرت النائبة الجمهورية نانسي ميس هذا الاتجاه بوضوح، حيث قالت لمراسلي شبكة "إن بي سي نيوز": "الديمقراويون يملكون ما حدث اليوم... مجنون يساري غاضب أطلق رصاصة في رقبته".

في الوقت الذي أصدر فيه ثلاثة رؤساء أمريكيين سابقين بيانات تدعو للهدوء والتأمل، اختار ترامب مسارًا مختلفًا جذريًا. ففي رسالة مصورة من المكتب البيضاوي، ألقى ترامب باللوم صراحةً على "اليسار الراديكالي" وحمّل "خطابه" المسؤولية عن "الإرهاب الذي نراه في بلدنا اليوم". هذا الخطاب لم يكن مجرد تصريح عابر، بل كان إعلانًا صريحًا عن أن الرد لن يكون بالتهدئة، بل بالثأر. وقد وصفه جوناثان فريدلاند، في مقال لـ "الجارديان"، بأنه أثبت أن ترامب "لا يبالي" بتوحيد البلاد، وأن كل ما يهمه هو استغلال الموقف لصالحه السياسي، وكأنه يعلن الحرب على كافة خصومه السياسيين، وفقا لمجلة "نيويوركر".
تضخمت هذه الدعوات من قبل حلفاء ترامب في الإعلام والسياسة، حيث وصف ستيف بانون، الاستراتيجي المحافظ، كيرك بأنه "ضحية حرب"، مؤكدًا أن "هناك حربًا في هذا البلد". وتناغمت تصريحاته، التي نشرتها صحيفة "الجارديان" البريطانية، مع أصوات أخرى، مثل إيلون ماسك الذي كتب على منصة إكس: "إذا لم يتركونا بسلام، فإن خيارنا هو القتال أو الموت". هذا النوع من الخطاب المثير للغضب لا يترك مجالًا للحل الوسط، ويُعد دعوة مباشرة إلى العنف المضاد.
تسييس المأساة وتغيير قواعد اللعبة
كشفت هذه الحادثة عن تباين صارخ في قواعد الاشتباك السياسي، فبينما يلتزم الديمقراطيون بتقديم التعازي والدعوة إلى الوحدة، حتى في حالات استهدافهم، يرى اليمين أن قواعد اللعبة قد تغيرت. ويتضح هذا التباين في رد فعل ترامب على هجوم سابق استهدف زوج نانسي بيلوسي، حيث رد بالسخرية بدلًا من التعاطف. ويشير فريدلاند في "الجارديان" إلى أن "قواعد مختلفة تنطبق" على كل جانب، حيث يُطلب من الديمقراطيين أن يكونوا متسامحين، بينما يمكن للجمهوريين السخرية من الضحايا والمطالبة بالمزيد من العنف.
يُفسر هذا التباين بأن اليمين نجح في تغيير "نافذة أوفرتون"، وهي مجموعة الأفكار المقبولة في النقاش العام. فبينما كان الليبراليون يتجنبون آراء كيرك المتطرفة ويكتفون بمدح قدراته الخطابية، سارع اليمين إلى تطهير تاريخه وتحويله إلى "شهيد" ورمز للحرية. وهذا التمجيد لا يهدف فقط إلى تذكير الجمهور به، بل يبرر آراءه المتطرفة ويجعلها أكثر قبولًا في النقاش العام، مما يمهد الطريق لسياسات أكثر عدوانية.
الخطر الأكبر: العنف المؤسسي
لا يقتصر الخطر على الخطابات التحريضية، بل يتجاوزها إلى إنشاء ثقافة عنف مؤسسية. وفقًا لـ "نيويوركر"، ألمح ترامب إلى نيته مقاضاة "المنظمات التي تمول وتدعم" العنف السياسي، وهو تهديد خطير في ضوء وصف معاونيه للحزب الديمقراطي بأنه "منظمة متطرفة داخلية". هذا الاستعداد لاستخدام سلطة الحكومة الفيدرالية لقمع المعارضة يُعد سابقة خطيرة في تاريخ الولايات المتحدة.
وقد سبق لإدارة ترامب أن أظهرت ميلًا لاستخدام العنف المؤسسي في مناسبات مختلفة، بدءًا من التسامح مع أحداث 6 يناير، وصولًا إلى استخدام وزارة الأمن الداخلي لصور مؤلمة للضحايا من أجل إثارة حماس المؤيدين، في ممارسات تذكر الجمهور بأعمال عنيفة في تاريخ الاستبداد. كما رفض رئيس مجلس النواب الجمهوري، مايك جونسون، نصب لوحة تذكارية لرجال الشرطة المدافعين عن مبنى الكابيتول، كما هو منصوص عليه في مشروع قانون مشترك بين الحزبين، وهو ما اعتبره تقرير "بروجيكت سنديكيت" بمثابة إشارة واضحة على إمكانية الإفلات من العقاب.
وفي نهاية المطاف، أصبح مقتل كيرك بمثابة المحك الأخير. فبدلًا من أن يكون فرصة لتوحيد الصفوف، استُغل الحادث لتأكيد أن الصراع الحالي "ليس نزاعًا مدنيًا بين أبناء وطن واحد، بل حربًا بين نظرتين عالميتين متعارضتين لا يمكن أن تتعايشا بسلام. طرف واحد سيفوز، وطرف واحد سيخسر." هذا الإدراك القاسي، الذي أورده "الجارديان" على لسان نيك فريتاس، يهدد بدفع المجتمع الأمريكي إلى حافة الهاوية، حيث لا مكان للتسامح أو التعايش.