الخميس 25 أبريل 2024 الموافق 16 شوال 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
أراء كتاب

د. حسام فاروق يكتب: الإعلام والأمن القومي

الرئيس نيوز

لم يعد مفهوم  الأمن القومي قاصراً على البُعد العسكري التقليدي، لكنه اتسع ليشمل أبعاد أخرى، لا تقل أهمية باعتبارها تهديدات غير مباشرة تؤدي إلى خلل في بنية المجتمع والدولة معاً، حيث ضم المفهوم مضامين متعددة تتداخل مع شتى أنظمة الحياة، كالإصلاح الاجتماعي، والارتباط بالقضاء والعدل، والتربية والإرشاد ويُعد الاستخدام السيئ أو غير المسئول لوسائل الإعلام، والاختراق الإعلامي، والحرب الإلكترونية من أكبر الأخطار التي تهدد الأمن القومي.  

إن الأحداث المتسارعة التي شهدها العالم بشكل عام، ومنطقتنا العربية بشكل خاص خلال العشرية الثانية من القرن الواحد و العشرين تُوجِب إعادة التفكير في علاقة الإعلام بالأمن القومي وضرورة وضع توصيفات محددة لمهام الإعلام  ووظائفه التقليدية التي أُنشئ من أجلها, وكذلك المستحدثة التي ظهرت في ظل تطور تقني رهيب في مجال  المعلومات والاتصالات  خلال السنوات القليلة الماضية.

علاقة الأمن القومي بالإعلام وانعكاس ذلك على دور الأخير في العلاقات الدولية، معضلة قديمة جديدة  ليست في مصر أو المنطقة العربية فحسب ولكن في العالم أجمع, بما فيها الدول الكبرى التي تُوصف بارتفاع سقف الحريات فيها وإِعلاء قيم الديمقراطية, لا سيما مع ازدياد سطوة الحروب الدعائية عبر ماكينات الإعلام الدولية التي تعمل بصورة ذكية وبإمكانيات ضخمة، بحيث يصعب التفريق بين الإعلام الموجه من جهة، وحق المتلقي في الحصول على الأخبار والمعلومات و ممارسة حرية الرأي والتعبير من جهة أخرى.

هل من حق الإعلام أن يعرض ما يشاء من معلومات مهما كانت خطورتها وتأثيرها على الأمن القومى تحت شعار الحرية؟ و ما هى المعايير والخطوط الحمراء التى يجب ألا يتجاوزها الإعلام فى نشر المعلومات؟ و كيف يمكن تحقيق التوازن بين حرية الإعلام وبين الحفاظ على الأمن القومى؟ وهل يجوز تجريم من ينشر معلومات تضر بالأمن القومي؟ 
كل هذه الأسئلة عند النظر إليها بعين المنطق والعقل والقانون في أي بلد في العالم تكون الإجابة أنه حال شكَّل الإعلام بمفهومه التقليدي والمستحدث تهديدا لأمن الأفرد والمجتمع، بدوافع سياسية أو بهدف الإثارة، أو السبق الإعلامي، أو المنافسة غير الأخلاقية، أودواعي الحرية اللامسئولة  فهذا غير مقبول على المستويات كافة: شرقية وغربية، عربية وعالمية، وبالتالي فمن حق الدول التدخل بالقانون والتشريعات والأجهزة المعنية لتأمين أيديولوجياتها، وتعزيز استقلالها السياسي وتحقيق الانسجام والاستقرار الاجتماعي، وضمان وحدتها  الوطنية ودفع أي تهديد يستهدف الجهد اليومي الذي تبذله الدولة لتنمية ودعم أنشطتها الرئيسية سياسية، واقتصادية واجتماعية، ومجابهة أي مُحاولات للإضرار بتلك الأنشطة ومن ثم فللدولة أن تطمئن من ناحية وعي القائمين على الإعلام بمفهوم الأمن القومي، وأن توضح لهم أين تنتهي حرياتهم في إطار الحرية المسئولة، التي تراعي مصلحة الوطن والنسق القيمي للمجتمع دون مجاملة أو مواربة أو نفاق ومن حقها أيضا وضع خطوط حمراء تضمن بها حماية أمنها القومي.  
وفي الولايات المتحدة الأمريكية على الرغم من أن القوانين الأمريكية لا تحظر النشر الصحفي فى أى مجال، إلا أن المحكمة الدستورية العليا أقرت حالتين لا تحميهما النصوص الدستورية أولهما نشر تفاصيل حول تحركات الجيوش فى زمن الحرب، وثانيهما نشر الكلام البذىء أو الخارج، الذى من شأنه أن يثير أعمال عنف أو ارتكاب جرائم ولو نظرنا للحالتين سنجد أن بإمكاننا أن نفتح قوسين ونضع عنوانا بالبنط العريض وهو" كل ما يهدد أمن الوطن يخالف القانون". 
وفي هذا السياق نذكر على سبيل المثال كيف طالب ديك تشينى نائب الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن  بإجراء تحقيقات واستجوابات لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية لأنها  كشفت فضيحة التجسس والتنصت على مواطنين أمريكيين، وكشفت برامج سرية حكومية تستخدم لمراقبة التحركات المالية المصرفية للمشتبه فى قيامهم بأعمال إرهابية، بدون سند قانونى ووصف ديك تشينى نيويورك تايمز بعدم الأمانة الصحفية وعدم الالتزام بالوطنية, والتسبب فى جعل عملية الحرب على الإرهاب أكثر صعوبة، بإصرارها على نشر معلومات مفصلة حول برامج حيوية خاصة بالأمن القومى الأمريكى, وقال نحن فى حالة حرب وما فعلته نيويورك تايمز يُعد خيانة!.
وفي مايو 2020 وقَّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرا تنفيذيا يستهدف مواقع التواصل الاجتماعي بإلغاء بعض جوانب الحماية القانونية الممنوحة لها ويتيح ملاحقتها قضائيا ويتهم موقع تويتر بخنق حرية التعبير بسبب سياسة المحتوى التي وصفها بأنها تهدد السلم المجتمعي الأمريكي.
على الجانب الآخر هناك من يحاول دائما تسييس المقاربة بين حدود الأمن القومي وحرية الإعلام ويطالب بمسح أي خطوط حمراء تحت شعار الشفافية وحرية التعبير وسرعة تداول المعلومات ولو سلمنا أن بعض أنصار هذا الاتجاه لديهم قناعات فعلية بما يتبنون, فما من شك أن البعض الآخر, غير خالص النية, ولا نبالغ لو قلنا أنه يعمل وفق مُخططات اُتقن صُنعها تجاه قضايا وأهداف محددة، لم يكن من الممكن تحقيقها دون مساندة من الإعلام بتفعيل الشق الماكر من وظيفته السياسية.
حيث أدركت الدول المتصارعة سياسيا مدى القوة الكامنة في الإعلام باعتباره  نقطة ارتكاز للمخططات الاستراتيجية داخليا وخارجيا، وعملت على تجنيد وتدريب وتمويل عناصر في الداخل والخارج لخدمة هذه المخططات تحت شعار حرية التعبير والديمقراطية. 
في الوطن العربي سيظل النقاش حول الأمن القومي لا يخلو من التسييس بسبب تغير خريطة المنطقة بعد التقلبات السياسية التي شهدتها والتي ساهم فيها الإعلام بشكل رئيسي سواء بشكله التقليدي متمثلا في الصحافة و محطات الإذاعة و التلفزة أو المستحدث متمثلا في شبكات التواصل الاجتماعي أو الإعلام الجديد. 
في الحالة المصرية بعد 2011م كان المدخل دائما من بوابتين  الأولى  حقوق الإنسان و الثانية غياب مفهوم محدد لمصطلح الأمن القومي, فيما يخص حقوق الإنسان  فكانت ولازالت مُسمار جحا الذي تستخدمه قوى خارجية  لخرق سفينة الدولة المصرية التي بدأت تتحرك بعد سنوات من التوقف في الماء الراكد, وتحاول به تقويض استقرار الداخل في تحد صريح للأمن القومي , وللعلم ليس هناك أي تعارض بين الأمن القومي و حقوق الإنسان في مصر مثلما يحاول البعض في الإعلام الموجه من الخارج إيهام الرأي العام بذلك, فأي ضرر يلحق بأحد أنشطة الدولة، أو مؤسساتها الحيوية، ينعكس بالطبع على أفرادها وحقوقهم, فضمان الأمن القومي هو ضمان لمختلف الحقوق الإنسانية. 
أما من يزعمون بغياب التحديد و مطاطية  مصطلح الأمن القومي, فهذه أيضا حجة مرفوضة على المستويين النظري و العملي حيث أن لفظ "الأمن" من الألفاظ ذات الدلالات الواضحة البيِّنة، إذ تُعرف حقيقته عند النطق به، و شدة وضوحه لا تتعارض مع كثرة استخدامه وتعدد تعريفاته واشتقاقاته. 
في حرب مصر الشرسة على الإرهاب بعد 30 يونيه 2013م كانت هناك محاولات كثيرة قامت بها وسائل إعلام خارجية مُسيسة و مُمولة لضرب الأمن القومي المصري عبر الشائعات و المعلومات المغلوطة حول هذه الحرب و دوافعها, وارتكبت هذه الوسائل في سياق عدائها للدولة المصرية أخطاء إعلامية وُصفت بالفضائح, تحدث عنها خبراء الإعلام حول العالم, نذكر على سبيل المثال تغطية قناة الجزيرة القطرية و قناتي الشرق و مكملين في تركيا للحوادث الإرهابية على أن الدولة هي التي تصنع الإرهاب وهي التي تقتل أبناءها من الجيش و الشرطة!!, و كانت الفضيحة الأشهر لوكالة رويترز البريطانية في20 أكتوبر 2017م عند تغطيتها للحادث الإرهابي في طريق الواحات وذكرها أن المعركة بين الشرطة و المتمردين وقع فيها 52 قتيلا من الشرطة, ناهيك عن وصفها للإرهابيين بالمتمردين, و الفرق كبير بين الكلمتين, فالحقيقة أن الحادث استشهد فيه 16 شهيدا من الشرطة و أُسر ضابط واحد تم تحريره لاحقا  وليس كما ذكرت رويترز ثم عادت و سحبت تقريرها دونما اعتذار!

الذين ينصبون أنفسهم حماة حرية التعبير في مصر ومعظمهم من ذوي التوصيفين مثل "إعلامي وناشط  سياسي"  "محامي حقوقي وإعلامي" و"مدون وناشط" و"باحث وناشط" جميعهم يلبسون الباطل ثوب الحق عندما يروجون إلى أن دعوة وسائل الإعلام بكافة أشكالها لالتزام المصداقية والمهنية والضوابط والأكواد الخاصة بالنشر والبث يقوض حرية التعبير ويعتدي على حقوق الإنسان!! 
فمن حقّ أي دولة حماية نفسها من خطر سلاح تدفق المعلومات المغلوطة والافتراءات الباطلة التي لها انعكاسات خطيرة على استقرارها؛ ومن ثم فمن حق مصر أن تحمي نفسها من شبكات الإعلام والاتصال الداخلية والخارجية التي لا تحترم القوانين أو تمثّل خطراً على أمنها القومي ومن حقها أيضا أن تطالب وسائل الإعلام، بتوثيق المعلومات من مصادرها الرسمية وعدم اللجوء إلى التهويل أو المبالغة أو الاعتماد على المصادر مجهولة الهوية ولها في ذلك أن تشرع ما تشاء من قوانين وترسم ما تراه مناسبا من خطوط حمراء لحماية أمنها القومي.