الجمعة 19 أبريل 2024 الموافق 10 شوال 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
أراء كتاب

أحمد الطنطاوي يكتب: الإرهاب.. والحرب على الأوطان والأديان

الرئيس نيوز

لطالما حدثتني نفسي وأنا أسير في أعراس الشهداء ونحن نودعهم بمشاعر يختلط فيها الحزن الشديد على فراقهم بالفخر الكبير بتضحياتهم -ضباطًا وصف ضباط وجنود- كيف كان لهذا الوطن العزيز أن يبقي خلوده ما لم يكن من بين أبنائه هؤلاء الشجعان، ومن سبقوهم، ومن سيلحقون بهم، في موكب مهيب ومتصل ممن يروون بدمهم الطاهر شجرة هذا الوطن الظافر؟
والحقيقة أنه إذا لم يكن من طريقة لمكافأة الأعظم والأنبل (درة تاج الوطنية المصرية) بما يستحقون في الدنيا، وقد تكفل رب العزة بمجازاتهم بمرافقة النبيين والصديقين في الجنة، فليس أقل من أن نظهر الوفاء لذكراهم العطرة، وأن نقاتل من بعدهم لتحقيق حلمهم الذى ضحوا لأجله فى سبيل بناء مصر الحديثة علي أسس من العدل والمحبة.
غير أن أكثر ما يؤلم هو أن هذا المعنى الأنبل والأكثر سموًا بين المعانى الإنسانية لم يسلم هو الآخر من الإساءة إليه، تارة بالتشكيك فيمن ضحوا بحياتهم ليمنحونا فرصة الحياة بشكل أفضل، وتارة أخرى بإلصاق أوصاف الشهادة على أعمال الإجرام والتدمير والخراب، والأكثر أسفًا أن يجرى ذلك أحيانًا بالتحايل على الدين أو باسمه بينما لا يخفى على من يملك شيئًا من العلم أو العقل -أو كليهما- أن الإسلام برىء من هؤلاء المنحرفين الذين يدَّعون كذبًا الجهاد باسمه، فيستحلون دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، ثم يتمادون فى الكذب على الله وقد زين لهم الشيطان أعمالهم وصدهم عن طريق الحق.. بينما تحاول عبثًا هذه الادعاءات الكاذبة أن تخفي تجارة محرمة يدفع فيها لهؤلاء المجرمين من يريدون تدمير الأوطان والحرب على الأديان.
ومن جهلهم، لا يفهم أعداء الدين والحياة تلك الطبيعة الخاصة والفريدة التى تميز المصريين خاصة فى أوقات الأزمات التى توحدهم فتذوب خلافاتهم فى وعاء الوطن الذى يعيش بأبنائه جميعًا ويعيش لهم جميعًا، كما لا يدرك هؤلاء الضَّالون المضِّلون أن ثقافة العنف والتطرف الدخيلة على مجتمعنا لن تجد لها أرضًا خصبة تمكنها من التوطن فى نفوس شعب تميزه السماحة، ويرفض عقله الجمعى الإرهاب الأسود، حتي مع الترويج لهذه الأفكار الشاذة والغريبة على المصريين الذين شكلت حضارتهم فجر الضمير الإنساني.. تلك الأفكار المسمومة التى يقع البعض فريسة لها بفعل إغواء الشيطان أو المال الحرام الذى يلعب بعقولهم المريضة وقلوبهم المتحجرة فيدفعهم لتنفيذ المخططات الخبيثة التى تستهدف النيل من الأديان وتدمير الأوطان.
غير أن انتصار الدولة المصرية الأكيد فى نهاية المطاف على هذا المرض اللعين لن يتم -بكل أسف- دون خسائر قد تزيد أو تنقص، وفى مدة قد تطول أو تقصر، بحسب كفاءة المواجهة وشموليتها.. فالحرب على الإرهاب هى معركة الدولة المصرية ككل وليس الأجهزة الأمنية فحسب، لذلك فإن توفير كل مقومات النجاح لتلك الأجهزة من معدات حديثة متطورة وأساليب تدريب علمية وراقية ونظام فعال للمحاسبة لكشف المجتهد ومكافأته ورصد المقصر ومجازاته هى أمور بديهية يجب أن توليها الدولة الاهتمام الكامل وتوفر لها الموارد المادية والبشرية اللازمة لأداء تلك المهمة شديدة الأهمية والصعوبة أيضًا، على الوجه الضروري من الكفاءة والفاعلية.
إن تجفيف منابع الإرهاب واقتلاع جذوره يبقي رهنًا بنجاح الدولة فى صياغة رؤية واضحة مكتملة الأركان تبنى على أساسها استراتيجية وطنية تحدد لكل وزارة وهيئة أهدافًا محددة يمكن قياسها لمعرفة درجة التقدم فى إنجاز ما هو مستهدف منها فى هذه الحرب المقدسة لتخليص الدين والدولة معًا من عدوهما المشترك.
وما أحوجنا الآن أكثر من أي وقت مضى لخطة شاملة ومدروسة بحيث نتجاوز ردود الفعل العاطفية، أو حتى العصبية، والتى ما تلبث إلا أن تهدأ فى زحمة الأحداث وتلاحقها؛ لتعود وتظهر من جديد عقب كل مصاب جلل يخلف ألمًا ووجعًا فى نفوس كل من له ضمير، وفى هذا الإطار فإن إنشاء المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب كان فكرة جيدة لكنها مازالت تحتاج في تطبيقها إلى صلاحيات محددة يمكن المحاسبة على أساسها لمعرفة ما تحقق وما لم يتحقق، وأسباب ذلك، وأساليب تداركه.
إن طبيعة المصريين الذين تزيدهم المحن تماسكًا وتوحدًا خلف وطنهم إنما تقطع على وجه اليقين بأن هزيمة مصر وكسر إرادة شعبها الصابر المثابر أمام هجمات الإرهاب الغادر هى من ضروب الخيال، وأن غاية ما يستطيع هؤلاء المجرمون فعله هو إنهاك هذا الوطن العظيم وتكبيده أكبر قدر من الخسائر فى الأرواح والممتلكات، وهى الفاتورة التى نستطيع الوصول بها إلى الحد الأدنى إذا ما تحمل كل منا واجبه تجاه دينه ووطنه بكامل المسئولية والإخلاص.
وإن تكرار هجمات الإرهاب الخسيسة التي لا تفرق بين عسكري ومدني، مسلم ومسيحي، وبكل الجراح التي تخلفها في نفوس المواطنين، والأوجاع التي تتركها في ضمير الوطن، إنما تحملنا -كل في موقعه- مسئولية مضاعفة لمواجهة هذا الإجرام، إلى أن نقتلع الإرهاب من جذوره ويحل على وطننا الأمن والسلام مصداقًا لقوله تعالى: "ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ".