السبت 20 أبريل 2024 الموافق 11 شوال 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تقارير

مذكرات جودة عبد الخالق (2): قدمت استقالتي للمشير طنطاوي فردَّ: "إنت بالذات لأ"

الرئيس نيوز

- المصيلحي وافق على دخول 38 مليون دولار تمويلات قطرية.. وأغراض الإنفاق كانت مثيرة للشبهات

- الحكومة فشلت في التعامل مع اعتصام قنا.. واضطررنا لإرسال المواد التموينية عبر الصحراء

- اقترحت على عصام شرف الذهاب إلى "أحداث ماسبيرو" سيرًا على الأقدام.. وما حدث كان "من آلام الولادة"

- استفتاء 19 مارس كان مرفوضا من الحكومة بالإجماع.. وشرف لم يتحمس لمناقشة الأمر مع "العسكري"

- قلت للمشير: "لي تاريخ سياسي أريد الحفاظ عليه".. وعنان قال "سنضع مبدأ دستوريا يحمي مدنية الدولة"


"بخلفية الثوري القادم من ميدان التحرير"، وافق الدكتور جودة عبد الخالق، أستاذ الاقتصاد، والمفكر اليساري، على قبول منصب وزير التضامن والعدالة الاجتماعية بعد أيام من تنحي الرئيس الأسبق حسني مبارك إثر ثورة 25 يناير.

18 شهرًا قضاها "عبد الخالق" في أربع حكومات متتالية، في فترة حكم المجلس العسكري، لكنه يعتبرها أعواما بمعيار الضغوط والتجارب، إذ انتقل من صخب الميدان وفورانه إلى دهاليز وتعقيدات الدولاب الحكومي وفي إحدى الوزارات الأقرب لمعيشة المواطن اليومية.

تلك التجربة التي خاضها الاقتصادي اليساري سجلها في كتاب "من الميدان إلى الديوان.. مذكرات وزير في زمن الثورة"، والصادر حديثًا عن دار الشروق، ويروي فيه بعد مقدمة تناولت سيرته السياسية والفكرية، تفاصيل الأزمات التي تعامل معها وكيف حاول تطبيق أفكار الأستاذ الجامعي المعارض في الملفات الوزارية.

"الرئيس نيوز" يعرض "المذكرات الوزارية" للاقتصادي اليساري البارز، على عدة حلقات، لوضع القارئ أمام رحلته كموظف عام بروح مفكر ثوري قادم من الميدان إلى الديوان.

التمويل الأجنبي

كان جودة عبد الخالق شاهدًا على عدة أزمات أفرزتها أحداث ما بعد سقوط الرئيس الأسبق حسني مبارك، وبرغم كونه مسئولا عن وزارة خدمية في المقام الأول، إلا أنه – بحكم وجوده في مجلس الوزراء آنذاك وبسبب تاريخه السياسي- كان متفاعلا مع العديد من هذه الأزمات.

أول هذه الأزمات كان متعقلا بشكل مباشر بعمله، وهي ملف التمويل الأجنبي الذي أثار جدلا في الأسابيع الأولى بعد ثورة 25 يناير.

يروي "عبد الخالق" أن الجدل بدأ بعدما عُرف أن الدكتور علي المصيلحي، وزير التضامن الاجتماعي السابق، أصدر قرارا في 22 فبراير 2011، وهو آخر يوم له بالوزارة، بالموافقة على عدة منح من عدة جمعيات قطرية إلى جمعية أنصار السنة المحمدية.

كانت قيمة المنح القطرية لهذه الجمعية تبلغ 38 مليون دولار (حوالي 182 مليون جنيها مصريا). ويلفت الدكتور "جودة" إلى أن منها حوالي 48 مليون جنيه فقط منها كان لأغراض محددة ومعلنة مثل رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة وبناء المدارس والمعاهد وترميم المساجد ومكاتب تحفيظ القرآن، أما الجزء الأكبر، وهو 134 مليون جنيه، فخُصص لـ"أغراض تنموية"، دون تحديد، الأمر الذي يفتح باب الشك حول الأهداف الحقيقة من هذا التمويل.

ويبدي "عبد الخالق" دهشته من أن موافقة "المصيلحي" على هذه المنح "جاءت بعد رفضه قبول هذه المنحة عدة مرات من قبل، ودون أن يكون هناك جديد يبرر القبول، وبعد الرفض المتكرر لتلك المنح".

ويتعجب من "أن يُقدم هذا المبلغ الكبير لجمعية أنصار السنة المحمدية الموجودة في مجتمع سني أصلا هو المجتمع المصري، الذي لا يحتاج إلى نشر السنة المحمدية"، مشيرا إلى أن هذا التمويل لجمعية من هذا النوع من مصادر قطرية، وبهذا المبغ الضخم، أثار الكثير من الشبهات حوله.

المحافظ المسيحي

نأتي إلى أزمة أخرى لم تكن داخل وزارة جودة عبد الخالق، لكنها تماست بشكل مباشر مع مسؤولياته، وهي قطع أهالي محافظة قنا الطريق البري وخط السكك الحديد، واعتصامهم في منتصف أبريل 2011، احتجاجا على تعيين اللواء عماد ميخائيل محافظا لقنا كونه "مسيحي".

في تلك الأزمة، أدى تعطل القطارات بين أسوان وشمال قنا وارتباك في حركة السفر، إلى عرقلة توصيل مواد التموين والقمح إلى المحافظات الواقعة جنوبي قنا وحتى أسوان.

يقول الوزير الأسبق: "اضطررنا في وزارة التموين إلى إرسال تلك المواد الحيوية عبر دروب برية في الصحراء بالتنسيق مع القوات المسلحة في ظل ظروف أمنية بالغة الصعوبة".

ويبدي الدكتور "جودة" رأيه السياسي في الأزمة، قائلا بوضوح إن تعامل الحكومة معها لم يكن سليمًا. كاشفا أنه عبر عن رأيه ذلك في اجتماع مجلس الوزراء بتاريخ 20/ 4/ 2011.

يروي: "قلت إن الاعتصام وقطع الطريق يجب فضهما بأسرع ما يمكن حتى وإن ترتب على ذلك سقوط ضحايا. إلا أن الدكتور عصام شرف رئيس الوزراء فضل أسلوبا آخر، هو التفاوض مع المعتصمين قاطعي الطريق بوساطة بعض رجال الدين، فظرهت الحكومة بمظهر الضعيف العاجز عن حسم الأمور في الوقت المناسب، وسقطت هيبة الدولة وسلطان القانون".

أحداث ماسبيرو 

أزمة أخرى جرت أحداثها في القاهرة، وأمام مبنى التلفزيون الحكومي بمحيط ميدان التحرير، هي الأزمة المعروفة إعلاميا بــ"أحداث ماسبيرو"، في أكتوبر 2011.

كانت الأوضاع مشتعلة في وسط القاهرة، خصوصا بعد سقوط ما بين 24 إلى 35 شهيدا، أغلبهم من الأقباط. وعلى المستوى الرسمي عُقد اجتماع حكومي صباح يوم 9 أكتوبر لمناقشة التداعيات، تبعه اجتماع في ظهر نفس اليوم مع المجلس العسكري الحاكم آنذاك، ثم انعقاد مصغر للمجموعة الوزاية المختصة بالأزمات في العاشرة مساء، استمر لمنتصف الليل.

يروي جودة عبد الخالق عن هذا الاجتماع الأخير: "اقترحت على الدكتور عصام شرف أن نذهب نحن أعضاء لجنة الأزمات مباشرة إلى ماسبيرو، ونترك السيارات قبل المبنى بمسافة، ثم نتحرك إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون سيرا على الأقدام حتى يرانا الناس في الشارع، فهذه إشارة إلى أن الحكومة موجودة في قلب الحدث، وتتابعه من داخله، وليس عن بُعد أو إصدار بيان. 

وتضمن اقتراحي أن يلقي الدكتور عصام شرف بيانه على الشعب من خلال شاشة التلفزيون بالبث الحي على الهواء مباشرة".
نفذ رئيس مجلس الوزاء الاقتراح بالفعل، وقرر الذهاب مع وزرائه المجتمعين إلى "ماسبيرو" ودخوله سيرا على الأقدام من مسافة بعيدة حتى يراهم الناس موجودين في قلب الأزمة.

يعقب وزير التموين والعدالة الاجتماعية قائلا: "لن أنسى هذا المشهد أبدا ونحن نسير على كورنيش النيل من أمام مبنى دار المعارف؛ حيث تركنا سياراتنا. كان أشبه بمشهد ميدان معركة عنيفة قد انتهت للتو، لكنه كان مشهدا عظيما برغم كل شيء". ثم يضيف: "وخطر ببالي أن ما يحدث هو جزء طبيعي من آلام الولادة- ولادة مصر الجديدة".

الإعلان الدستوري

لكن الأزمة الأبرز سياسيا، والتي شغلت مصر لأسابيع، كانت قبل كل هذا بعدة أشهر، وهي إصدار الإعلان الدستوري الشهير في 13 فبراير 2011، الذي نظم ترتيبات المرحلة الانتقالية.

كان الإعلان يتضمن أن يحكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة البلاد لمدة 6 أشهر أو حتى الانتخابات اللبرلمانية أو الرئاسية، مؤخرا بذلك خطوة كتابة دستور جديد للبلاد، إلى ما بعد كل هذا.

جاءت حكومة الدكتور عصام شرف فوجدت في 7 مارس، لتجد نفسها في مرمى مناقشة دراسة هذا الإعلان بل وتنفيذ خطواته في الانتقال السياسي.

هنا يكشف جودة عبد الخالق أن المناقشات التي جرت في مجلس الوزراء آنذاك أفرزت عن إجماع على ضرورة إعادة النظر في ترتيب مراحل الانتقال، لتبدأ بكتابة دستور جديد ثم تأتي الانتخابات البرلمانية والرئاسية.

بشكل شخصي، كان "عبد الخالق" مقتنعا إلى أقصى حد بضرورة وضع الدستور أولا، وعبر عن رأيه هذا في اجتماعات الحكومة أو في مؤتمرات ضمت قوى سياسية.

لذلك فإنه قرر أن يتحرك ضمن قناعاته تلك. ففي منتصف مارس تقريبا، التقى الوزير الأسبق رئيس الحكومة في لقاء منفرد، وطرح على الدكتور عصام شرف أن يطلب من المجلس العسكري عقد لقاء مشترك مع الحكومة لمناقشة الإعلان الدستوري.

يحكي الوزير الأسبق: "أوضحت لسيادته أننا كحكومة سوف نكون مسؤولين عن أي مشكلات تنتج عن هذا الترتيب، باعتبارنا شركاء في الحكم مع المجلس العسكري، لكن الدكتور عصام شرف لم يكن متحمسا لاتخاذ هذه الخطوة. وكان تقديره أننا كحكومة عبرنا عن وجهة نظرنا في مناقشة الموضوع داخل مجلس الوزراء وهذا يكفي".

مكالمة المشير

في ذلك اليوم، خرج "عبد الخالق" من الاجتماع مع رئيس الوزراء، حوالي الرابعة عصرا، وهاتف المشير محمد حسين طنطاوي، رئيس المجلس العسكري، مباشرة: "أخبرته بأنني أريد مقابلته لأمر هام وعاجل، فحدد لي موعدا في الساعة السادسة مساء نفس اليوم".

في مكتب المشير طنطاوي بوزارة الدفاع، عقد اجتماع استمر 50 دقيقة بين الرجلين في حضور الفريق سامي عنان نائب رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة.

بحسب ما يكشفه "عبد الخالق"، فإن علاقته مع المشير طنطاوي توطدت للغاية في تلك الفترة القصيرة التي تولى فيها الوزارة، سواء في حكومة أحمد شفيق أو مع عصام شرف.

ويعدد "عبد الخالق" أسباب علاقته الجيدة بالمشير قائلا إن الملفات الشائكة التي كان يتعامل معها في وزارة التضامن والعدالة الاجتماعية، كانت تقتضي اتصالات مباشرة مع رئيس المجلس العسكري بمعدل أكثر من مرة في الأسبوع الواحد.

بالإضافة إلى ذلك – والكلام على لسان "عبد الخالق" - "ما لمسته في سيادة المشير (على غير ما يُشاع عنه) من إعلاء المصحلة العامة والقدرة على وضع الأمور في نصابها الصحيح. يُضاف إلى ذلك ما سمعته من بعض زملائي في الوزارة، خصوصا السفيرة فايزة أبو النجا، عن مواقفه السابقة في مجلس الوزراء أيام مبارك ضد الخصخصة والتوريث، كل ذلك أسهم في خلق أسس قوية لعلاقتنا".

نعود إلى تفاصيل الاجتماع، يحكي "جودة": "ذكرت للمشير طنطاوي أنني أريد تقديم استقالتي لأنني معترض على ترتيب خطوات الانتقال كما حددها الإعلان الدستوري بحث تبدأ بالانتخابات وتنتهي بكتابة الدستور".

ويضيف: "قلت بكل وضوح أن الفائز النهائي طبقا لهذا المسار سيكون قوى الثورة المضادة من بقايا الحزب الوطني، وجماعة الإخوان المسلمين وغيرها من عناصر الإسلام السياسي".

تقديم الاستقالة

بعد ذلك، وجّه الوزير حديثه للمشير طنطاوي قائلا: "سيادتك تعلم أن لي تاريخا سياسيا من واجبي الحفاظ عليه، ولذلك أرجو قبول استقالتي".

كان رد المشير طنطاوي معبرا فيما بدا عن تلك العلاقة الوطيدة التي تحدث عنها "عبدالخالق" إذ طوّق المشير كتفيّ الوزير بذراعيه في حميمية وقال بـ"عشم": "لو كل الوزراء استقالوا، إنت بالذات غير مسموح لك بالاستقالة".

رد جودة عبد الخالق مبديا تقديرا لموقف "طنطاوي": "فلنبحث عن حل لموضوع الإعلان الدستوري"، ليتدخل في تلك اللحظة الفريق سامي عنان، الذي كان مكتفيا بمتابعة اللقاء طوال الوقت، قائلا: "يمككننا إعلان مبدأ دستوري بأن مدنية الدولة خط أحمر، للتأكيد على مدنية الدولة".

يعقّب الوزير الأسبق: "وافقت على هذا المقترح كمخرج من أزمة الإعلان الدستوري، وبرغم ذلك، لم يتم إعلان المبدأ الدستوري الذي يضمن مدنية الدولة. وتم الاستفتاء على التعديلات الدستورية في 19 مارس، وسارت الأمور في اتجاه آخر غير ما كنا نسعى إليه ونتمناه لشعبنا ولوطننا".