الخميس 25 أبريل 2024 الموافق 16 شوال 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تقارير

هاني نسيرة: السلفيون يعادون كلمة "مدنية" رغم اعتراف "ابن تيمية"

هاني نسيره
هاني نسيره

 

يشتبك الباحث المُخضرم في ملف الإسلام السياسي، هاني نسيرة، مع كلمة (المدنية) – أحد أبرز الكلمات المُثيرة للجدل ـ لكثرة تعريفاتها من جهة، ولكونها تثير غضب أحزاب الإسلام السياسي من جهة أخرى؛ بوصفها مرادفة للعلمانية التي تودي بصاحبها إلى الكفر والإلحاد بحسب مفهومهم.

نسيرة الذي عُرف بتفنيده للمرتكزات الفكرية وأدبيات الجماعات الراديكالية، فضلًا عن تفكيكه للسرديات الكبرى التي تذكرها تلك الجماعات، كتب مقالًا بعنوان، "لماذا يعادي التيار السلفي كلمة «المدنية"؟" قال فيه: "يخطئ التيار السلفي في مصر في موقفه من المدنية، نتيجة مصادر عديدة لسوء الفهم والخلط بين هذا المفهوم التراثي الموجود مقبولا في تراث السلف، وبين العلمانية الشاملة".

 

(المدنية صفة التعايش)

 

يسعى الباحث المُتخصص إلى التأكيد على أن (المدنية) هي صفة للتعايش وتنظيم علاقات الناس الطبيعية والمستمرة، وأنها ككلمة تمتد جذورها إلى عصر الإسلام الأول؛ وعزز نسيرة حديثه بالتذكر بأن أول دستور مدني كتب في صدر الإسلام، وتم صياغة بنوده بوجود النبي محمد، أطلق عليه "صحيفة المدينة" أو "وثيقة الحقوق"، وكان ذلك في السنة الأولى للهجرة، أي عام (623م).

استطرد نسيرة قائلًا: "هكذا تنسب المدنية وترتبط بفكرة «المدينة» بالأساس، بما تعنيه من اجتماع وتعايش إنساني منظم بشرائعه وقوانينه".

ويشير المؤرخون إلى أن "صحيفة المدينة"، استهدفت تحسين العلاقات بين مختلف الطوائف والجماعات في المدينة، وعلى رأسها المهاجرين و الأنصار والفصائل اليهودية وغيرهم، حتى يتمكن بمقتضاه المسلمون و اليهود وجميع الفصائل من التصدي لأي عدوان خارجي على المدينة. وبإبرام هذه الوثيقبة صارت المدينة المنورة دولة وفاقية رئيسها النبي محمد.

 

(المدنية في فهم السلفيين الأوائل)

 

الباحث المُتخصص في ملف الإسلام السياسي، يشير إلى أن كلمة "المدنية" يساء فهمها فقط من قبل التيار السلفي، وأنه كتيار منذ أن تداخل في الشأن السياسي في أعقاب ثورة 25 يناير 2011، كرس جهده لرفض المصطلح وشحن عناصره ضده. فيقول نسيرة: "لم يجد جل فقهاء السلف الأوائل حرجاً من استخدام ما قاله فلاسفة اليونان من أن "الإنسان مدني بطبعه".

فقد استخدمها القاضي أبو بكر بن العربي «ت 543 هجرية»، كما استخدمها واستقبلها بالقبول كل من الفخر الرازي «ت 606 هجرية» ابن تيمية «ت 728 هجرية» وابن القيم «ت 758 هجرية» وابن خلدون «ت 808 هجرية» وغيرهم".

تساءل نسيرة قائلاً: "إذا كان علماء التراث ووجوهه القدامى، قد استقبلوا هذه المقولة «الإنسان مدني بالطبع» قبولاً حسناً وتعاملوا معها باعتبارها من المسلمات، فلماذا أصبحت كلمة «مدني» أو «مدنية» تعني الآن شيئا مشبوهاً عند السلفيين المعاصرين، وتستنفر قواعدهم وشيوخهم، ويجعلونها ضد الدين؟"

أورد الكاتب عدد من الاقتباسات من بعض عمد السلفية من أمثال، أحمد ابن تيمية، وابن القيم. فالأول كتب في رسالته (الرد على البكري)  يقول: "الناس في مصالح دنياهم متعاونون عليها، إذ كان الإنسان مدنيا بالطبع لا تتم مصلحته إلا ببني جنسه يعاونونه على جلب المنفعة ودفع المضرة والمعاوضة بينهم هي التي تبعث على المعاونة أو كل منهم لا يفعل إلا ما يجلب إلى نفسه به منفعة أو يدفع به مضرة، لهذا يقال الإنسان مدني بالطبع".

يقول ابن تيمية أيضًا في (بيان تلبيس الجهمية): "والانسان مدني بالطبع لا يعيش إلا مع بني جنسه، ومن لم يقر الا بما أحسه لم يمكنه الاستعانة ببني جنسه في عامة مصالحه". ويضيف، في موضع آخر: "الإنسانُ مَدَنِيٌّ بالطَبعِ لا يَستَقِلُ بتَحصِيلِ مصالحه، فلا بُدَّ لهم مِن الاجتماع للتعاون على المصالح". والرأي نفسه قاله ابن القيم (توفي 758 هجرية): "إن الإنسانَ مَدَنِيٌّ بالطبع، لا بد له أن يعيش مع الناس".

وقبلهما أكد الفخر الرازي (المتوفى سنة 606 هجرية) في تفسير قوله تعالى "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض" البقرة – آية 251، على حقيقة مدنية الإنسان، أما أبو بكر بن العربي (توفي 543 هجرية) فيقول: "لما كان الإنسان مدنيا بالجِبِلَّةِ، مفتقراً إلى الصحبة بالضَرُورَةِ، لأنه خُلِقَ خَلقاً لا يَستَقِلُ بمعاشه ولا يستبد بمنافعه بل هو مُفتَقِرٌ في ذلك إلى غيره، وكان ذلك الغير إما مجتمعا معه وإما مبايناً عنه، والمنفعة التي يفتقر إليها إما حاضرة وإما غائبة… إلخ".

مما سبق يفهم من أن موقف الأقدمين من كلمة المدنية، لم يكن يشوبه أي وجهة اعتراض؛ من ناحية أنه لا يتضمن أي مواقف سلبية أو منتقدة لما هو ديني، بل كانوا يتناولونه بصفته تعبيرًا عن البعد الاجتماعي للإنسان. وفي موضع أخر من المقال يقول الكاتب: "السلف الأقدمين عرفوها بصيغ متعددة، ... سواء لنسبتها للمدينة المنورة (في تقسيم النص القرآني)، أو النسبة للمدينة في الأسماء، أو في بعض الكتب مثل "الرسالة المدنية" لابن تيمية، أو بمعنى التعايش الاجتماعي والإنساني المدني الرابط بين بني الإنسان بشكل عام".

 

(المدنية عند السلفيين المعاصريين) 

 

يوضح نسيرة أن الأمر يختلف مع السلفيين المعاصرين، فإنهم يكرهون كلمة "المدنية" وأنها تشعل جام غضبهم وثورتهم، وتكون محل تحفظهم؛ إذ تنحصر عندهم في العلمانية بمعناها الشامل اللاديني وليس غيره، فيقول نائب رئيس الدعوة السلفية، ياسر برهامي، حسبما ذكر الكاتب: "إن إضافة كلمة مدنية للدولة من المقترحات المستفزة التي أصابت البعض بالقيء والغثيان، وارتفاع الضغط وجلطة القلب والمخ". وفي موضع آخر، يقول: "المقصود بالدولة المدنية هى دولة لا مرجعية للشريعة فيها".

إذن التيار السلفي يجاهد كلمة (المدنية)، ويحصر نضاله ورسالة دعوتهم، في مجابهة الكلمة. فيقول نسيرة: "وجدنا هذا في مواقف كثيرة، بدءا من موقفهم من وثيقة الدكتور على السلمي سنة 2012، مرورا بتعديلات لجنة الخمسين، وصولا للتعديلات الدستورية الأخيرة سنة 2019، والتي انحصر انتقاد السلفيين لها – رغم موافقتهم عليها- في التحفظ على كلمة مدنية فقط". متابعًا: "إنها إذن الكلمة المدنسة التي يقاتلها هؤلاء وتشعل حماسهم وغيرتهم على المقدسات".

المدنية في الفكر العربي

يذكر الكاتب المتخصص، أن كلمة (المدنية) أسبق من (العلمانية) في الفكر العربي المعاصر، فقد ظهرت المدنية ومشتقاته عربيا – مدني ومدنية وتمدن- بدلالاتها نفسها التي تعني التعايش والعمران الإنساني القائم على الروح المدنية والتسامح والتشارك والتعايش الاجتماعي والحضاري، قبل أن يظهر مفهوم العلمانية بعقود كثيرة.

يشير نسيرة إلى أن كلمة (المدنية) برز في أواخر القرن التاسع عشر في كتابات متعددة حول سؤال التقدم والتخلف والتمدن العربي والإسلامي، لأمثال رفيق العظم وأحمد حافظ عوض ومحمد توفيق رفعت وغيرهم، كما ظهر بقوة في العقد الثاني من القرن الماضي خلال معركة (مدنية القوانين) و الجدل الثقافي والسياسي الذي سبق وزامن صدور دستور 1923.

يوضح الكاتب أن مصطلح (العلمانية) لم يظهر إلا منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، ولم يكن يستخدمه من يوصفون بآباء العلمانية العربية، أمثال أديب اسحاق وفرانسيس مراش وشبلي شميل وفرح أنطون، أو رواد النهضة من اتجاه الأصالة شأن عبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني، وربما لم يعرفوه بهذه الصيغة إلا كتعبير كنسي، في الإشارة لغير رجال الدين.

مخرج الجبري والمقصود بالمدنية

يقول الكاتب المتخصص، إنه تم الاستدعاء الثاني لمفهوم "المدنية" خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي، مع ظهور ما يسمى المشاريع الفكرية العربية، خاصة تلك التي حاولت الجمع بين مفهومي الهوية والتجديد، شأن المفكر الراحل الدكتور محمد عابد الجابري، ولهذا السبب السابق كان استدعاء مفهوم المدنية بديلا لمفهوم العلمانية بحمولاتها ومعانيها الغربية والكنسية والثقافية العديدة، إذ أن مفهوم المدنية أكثر مناسبة لنا قبولا.

لكن مفهوم المدنية بدأ يتسع ليشمل أصله الثقافي والاجتماعي والثقافي في تعبيرات المجتمع المدني ومنظماته، والدعوة للحياة المدنية والتعليم المدني، والحديث عن التربية المدنية والمواطنة القائمة على التسامح الديني والثقافي والسياسي بين أبناء المجتمع.

يستخلص نسيرة من مقاله أن الأدق القول بأن المدنية ليست مفهوما تتعدد أفهامه، كما أنه ليس مصطلحا، بل هو إطار مفاهيمي واسع، يرتبط بمضامين التمدن و التقدم الإنساني والعقلي والحرية الفردية والتعايش الاجتماعي العمراني، دون تمييز على أسس الانتماءات الأولية.

يتابع نسيرة: "من هنا نرى أن عدم معرفة أو تجاهل التيار السلفي المصري لهذه الخلفيات، هو أحد مصادر فهمه الخاطئ الذي يرادف بين المدنية أو الإلحاد ومعاداة الدين والعلمانية الشاملة التي تشملهما. فمهفوم المدنية أوسع من الديني الذي يتصالح معه ويحتويه دون أن يعاديه".

يقول نسيرة في أحد فقرات مقاله: "التيار السلفي المعاصر .... استخدام كل أسلحة التكفير والاتهام لكل ما هو مدني، ولكل صفة مدنية رغم أن هذا غير صحيح، ورغم أن كثيرين من المحسوبين على الفكر الإسلامي في القرن العشرين، استخدموا هذا المفهوم ولم يروا فيه حرجا، وأبرزهم الفقيه الدستوري الراحل عبد الرزاق السنهوري في موسوعته في القانون المدني، الذي يضع المدنية كإطار لتنظيم علاقات الناس.

يختتم نسيرة مقاله بالقول: "هذه إشارات تكشف الخلط والإصرار على احتكار الحق والحقيقة والمرجعية، يكرر فيها البعض دعوات الشيخ عليش ضد تعليم الفلسفة وعلم الكلام في الأزهر قديما، كما يكرر بها الخوف المبالغ فيه من كل جديد وكل آخر وكل صفة لخصومه حتى وإن قبلها أسلافه.. وهكذا لا يفهم السلفيون المعاصرون كلمة «المدنية» بينما فهمها ابن تيمية قديما، والسنهوري وغيره حديثا".

لقد أصاب الباحث المتخصص هاني نسيرة، حينما استخلص أن الأدق هو القول بأن المدنية ليست مفهوما تتعدد أفهامه، كما أنه ليس مصطلحا، بل هو إطار مفاهيمي واسع، يرتبط بمضامين التمدن و التقدم الإنساني والعقلي والحرية الفردية والتعايش الاجتماعي العمراني. فهذا الرأي يشير إلى أن "المدنية" ليست مصطلحًا أو مفهومًا فلسفيًا، بل كلمة مطاطية يصب عليها مستخدمها ما يشاء من تعريفات.

فأول استحدام للمصطلح ربما يعود إلى جان جاك روسو الذي تحدث عن أن البشرية كانت في حالة الطبيعة أو البدائية وانتقلت الى حالة المجتمع المدني والدولة المدنية. وبعض السياسيين يرون أن كلمة "المدنية" هي البديل للحكم العسكري، والبعض الاخر يعتبرها بديلًا للحكم الديني. ولم أجد تعريفًا فلسلفيًا للكلمة، وحينما ذكرت في المعجم الفلسفي، تصدير الدكتور (إبراهيم مدكور) جاء ذكرها في إطار تعريفه لـ"المدينة الفاضلة عن الفارابي)، وذكر انها مدينة فاضلة أفرادها مثاليون متضامنون يعمل كل منهم بحسب كفاءته وطاقته.