الخميس 25 أبريل 2024 الموافق 16 شوال 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تقارير

6 أكتوبر بقلم مراسل حربي (5- 5): أمامنا عدو مهزوم.. ومواقعه الحصينة مباحة لنا

الرئيس نيوز

"لقد قضيت ليلة طويلة متوحدًا أذرف الدمع الحار على مقاتل مصري من هذا النوع الذي يأتيك انطباع عند رؤيته، أنه خُلق ليستشهد، من جرأته، من البطولات الأسطورية التي أتاها، من تأثيره بين رجاله، من طريقته في الحديث التي تجعلك تشعر أنك أمام راهب حرب، متصوف عسكرية.. لو سردت آلاف الصفحات بأكثر الأقلام حدة، وأكثرها موهبة، فلن يصبح هذا إلا بمثابة خدش فوق سطح متعدد الأعماق".

بروح المقاتل وقلم الصحفي، سجّل الكتاب الراحل جمال الغيطاني هذه الكلمات، في السنة الأخيرة من فترة عمله مراسلًا حربيًا على الجبهة، والتي بدأها منذ عام 1968 إلى 1974.

عايش "الغيطاني" الجيش المصري، في تلك الفترة الملحمية التي شهدت الاستعداد لمعركة التحرير، وتفاعل بروحه وشاهد بعيينه ونقل بقلمه عمليات حرب الاستزاف، حتى جاءت اللحظة الكبرى في 6 أكتوبر 1973، عندما عبرنا قناة السويس إلى الضفة الشرقية.

كان الكاتب الراحل أحد أشهر المراسلين الحربيين في تاريخ الصحافة والجيش المصري، وكانت مراسلاته اليومية من الجبهة إلى الشارع عبر صحيفة "الأخبار" مادة أدبية إخبارية رفيعة المستوى لنقل صورة كاملة عن بطولات الجندي المصري في مواجهة العدو الإسرائيلي.

"الرئيس نيوز" يعرض على حلقات متتالية يوميات حرب أكتوبر بقلم "الغيطاني" والتي صدرت حديثًا في كتاب "على خط النار"، الصادر عن دار أخبار اليوم في مناسبة الذكرى 46 لمعركة العبور.

*

في هذه الحلقة، لدينا عدة رسائل بعث بها الغيطاني إلى جريدة الأخبار التي نشرتها في عددها الصادر يوم 6 نوفمبر 1973، أي بعد 30 يوما على انطلاق حرب أكتوبر، تحت عنوان "رسائل مقاتل من أعماق سيناء".

رغم أن "الغيطاني" يقدم للرسائل بأنها على لسان مقاتل على الجبهة، لكننا لا نستعبد أن يكون المراسل الحربي صاغها بنفسه معتمدا على معايشته للمقاتلين، لأنه لم يحدد اسم صاحبها على وجه التحديد، وهي موجهة إلى "الأصدقاء الأعزاء".

في الرسالة الأولى يقول المقاتل: "أنا بخير، ونريد من هنا أن تطمئنوا علينا تماما، ليس بصفة شخصية، وإنما في كل ما يتعلق بنا، ونحن نريد أن نطمئن عليكم، فنحن في مواقع القتال الأمامية، يبدو كل شيء واضحا لا يحتاج إلى كشف، الحقيقة هنا حيث قمة الصراع مع العدو جلية ناصعة، نراها عبر الدم المراق والخطر والشظايا والموت، نحن هنا في القطاع الجنوبي من الجبهة مثلا نعيش حياتنا، حياة الحرب، يصلنا الطعام والذخيرة والمياه، هذه حقيقة بينما تتساءلون أنتم هل يصلهم التموين أم لا؟ نحن هنا ندرك تماما حجم العمليات العسكرية التي يقوم بها العدو فوق الضفة الغربية".

بعد ذلك نقرأ في الرسالة: "أمامنا عدو مهزوم، ورمل سيناء مثقلة بجثث أفراده، ومواقعه الحصينة مباحة لنا، لا شيء يستعصي على الفهم، ونحن نعلم أنكم هدف أيضا لهذا العدو الحقير، يشن عليكم حربا نفسية ضارية على المستوى العالمي، نعرف أن إذاعات حلفائه تسلط عليكم أبواقها بهدف زعزعة ثقتكم في رجالكم، بهدف التقليل من النصر الذي حققناه، بهدف زرع الخوف والرهبة منه، لهذا سأحاول الكتابة إليكم، كلما سنحت الفرصة، أما الآن فأضطر إلى إنهاء رسالتي الأولى، إذ أنني على وشك الخروج في مهمة خاصة، هذه الليلة".

في رسالة أخرى شديدة العذوبة، يحكي المقاتل عن ليلة قضاها وزملائه في قرية قريبة من قناة السويس قبل تنفيذ عملية ضد قوات العدو. يقول: "وصلنا إلى القرية وفي الليلة سنخرج لاصطيادهم كما تُصاد الثعالب والجرذان.. بيوت القرية أخليت من المدنيين.. ذهبوا إلى قرية قريبة.. هنا في القطاع الريفي من الجبهة يمارس الناس حياتهم بشكل عادي.. منظر عادي جدا أن ترى فلاحا يحرث غيطا أثناء غارة جوية أو فلاحة تغسل ثيابا أو طفلة تحمل طعاما فوق رأسها تمضي به إلى والدها".

يواصل المقاتل رسالته قائلا: "في لحظات الهدوء النسبي.. حيث تبتعد أصوات الانفجارات والضجيج الذي تحدثه الطائرات يخيل إليك أنك في منطقة من مناطق الريف المصري الهادئ جدا الذي يسوده سلام أبدي.. كل عود نبات ينمو فيها تحدًّ للموت وللقهر وللعدوان.. كل فلاح يقيم هنا في حركته وأسلوب عمله قهر لأعداء الحياة".

ثم يحكي عن فلاح مصري في القرية يعرفهم ويعرفونه: "صباح اليوم فوجئنا بفلاح اسمه إبراهيم أبو العطا.. نعرفه كلنا.. من أهالي القرية.. كان يحمل طبقا من الفخار.. وقال: "السلام عليكم يا أبطال مصر". رددنا السلام. قلنا له: ماذا جاء بك يا إبراهيم أن تسعى دائما إلى الخطر.. لوح بيده مبتسما وقال: إن الأعمار بيد الله.. أشار إلى أحد أبراج الحمام.. وقال: جاء يحمل أكلا ليطعم الحمام الذي بقي في القرية بعد انتقالهم".

يتغزل "الغيطاني" في هذه الروح المصرية الفريدة، ويستكمل كلامه عن الفلاح قائلا: "كان وجهه هادئا لا يزعجه شيء وكان السلام في عينيه.. رحت أرقبه وهو يطعم أفراخ الحمام الصغيرة بينما أسلحتنا مشرعة، وبعد لحظات قصار قد تلتقي بالعدو".

ثم يختم بهذه العبارة الموجزة: "أصدقائي الأعزاء.. رأيت في هذا المشهد مصر.. مجدوا معي مصر"، قبل أن ينهي رسالته الأخيرة بقوله: "حتى نلتقي، ادعوا لنا بالنصر، واذكرونا".