الجمعة 19 أبريل 2024 الموافق 10 شوال 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تقارير

"جمهورية الضحك الأولى" (2): عبد الناصر.. "الصعيدي الجاد" في مواجهة نُكت الشعب

الرئيس نيوز

"المصريون شعب ابن نُكتة".. لا تبدو هذه العبارة كأثر شعبي جاف داسه الزمن بالتغيرات المتتالية، لكنها دليل حي، عمره من عمر المصريين أنفسهم، على روح الفكاهة لدى شعب وادي النيل.. هذا الشعب الذي سجل في كتاب "الموتى" الفرعوني القديم حكمة بليغة تقول: "لا تحزن وانت على قيد الحياة".

لماذا يقول المصريون النكتة؟ وكيف يقولونها؟ وعلى من؟ وفي أي ظروف؟ كل هذه الأسئلة التي تبدو جديرة بالدراسة يقدم لها إجابات ويربطها ببعضها البعض كتاب "جمهورية الضحك الأولى.. سيرة التنكيت السياسي في مصر"، لطايع الديب، الصادر عن دار "بتانة" 2019، الذي يعرضه "الرئيس نيوز" على حلقات متتالية.

 

الكتاب الذي يمكن وصفه – عكس موضوعه - بـ"الجاد"، يستعرض هذا الولع المصري بالنكتة، عبر ثلاث عصور للنكتة السياسية في العصر الجمهوري، خلال فترات الرؤساء جمال عبد الناصر ومحمد أنور السادات ومحمد حسني مبارك، ثم يُتبع ذلك بدراسات جادة وقيمة للنكتة المصرية، مع التطرق لصداها عند العرب، مستعينًا بمصادر عديدة ومتنوعة في التاريخ والسياسة والأدب والسير الذاتية وعلم النفس، مع استهلالات ذكية ولافتة لكل فصل.

***

عندما كانت "تروق عزالة" الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فإنه كان يضحك من قلبه كأنه طفل، بينما يهتز جسده العملاق على المنصة، بحسب ما نشاهد في لقطات عديدة له من خطبه المسجلة تليفزيونيًا.

رغم ذلك، فإن المأخوذ عن "الزعيم" أكثر شخصيته الجادة والوجه الصارم ويده الباطشة، وبحسب ما يرصده طايع الديب فإن هذا الوجه كان الطاغي على تعامل الرئيس الراحل مع "الضحك العام" خلال حقبتي الخمسينيات والستينيات.

يبدأ المؤلف فصل جمال عبد الناصر بواقعة مع الشاعر والصحفي كامل الشناوي، الذي أراد أن يمازح الرجل، في أول حوار له بعد توليه الرئاسة، مع جريدة "الجمهورية" أواخر عام 1956.

قال الشناوي على سبيل تلطيف الأجواء: "على فكرة يا ريس إحنا بلديات"، تعجب عبد الناصر الذي تلقى عقله الجملة بشكل جاد قائلا: "بلديات إزاي، إنت من بحري وأنا من الصعيد"، فرد الشناوي وهو يضحك: "إحنا الاتنين عندنا سكر".

ورغم أن تاريخ الواقعة يبدو متعارضا مع ما ذكره كثيرون، ومنهم محمد حسنين هيكل، أن عبد الناصر علم بإصابته بالسكر في 1958، لكن ما حدث عموما كان سببًا في غضب "الصعيدي" على كامل الشناوي.

كان شاعر أغنية "لا تكذبي" واحدًا من ثلاثة كونوا فريقًا ساخرا مقره "قهوة عبد الله" في قلب ميدان الجيزة، وهم محمود السعدني، كامل الشناوي، وعبد الرحمن الخميسي، والذين تخصصوا بحكم الفطرة والموهبة في التشنيع والتنكيت السياسي.

ذلك الأمر جرّ عليهم الويلات، إذ نُقل الخميسي من عمله بجريدة "الجمهورية" إلى شركة "باتا"، واُعتقل السعدني ضمن الشيوعيينن وجرى التضييق على الشناوي حتى أنه التزم بيته أسابيع عديدة.

في مقابل تعامله "الصعيدي" الجاد مع النكت، كان لجمال عبد الناصر "إيفيهات" يلقيها في أحيان عدة، لعل أكثرها ذكاءً وتوفيقا، أنه في أثناء مشاركته بمؤتمر "باندونج" الشهير لدول آسيا وإفريقيا، عام 1955، طلب من رئيس وزراء الصين، شوين لاي، دعم الاقتصاد المصري بشراء القطن من القاهرة قائلا: "لو فخامتكم طلبتم من الشعب الصيني يطوِّل هدومه 5 سنتي بس.. هتشتروا المحصول لمدة 30 سنة جايّه".

يطرح "الديب" سؤالًا في موضعه: "لماذا نكّت الناس على رجال ثورة 23 يوليو رغم أنها خلصتهم من حكم الملك فاروق الأول ذي الأصل اللبناني الفاسد، وحاشيته المرتزقة، كما خلصوها من سيطرة الباشوات المصريين والمتمصرين، ومن سطوة الهوانم والإفطاع والاستعمار، إلى آخر كل هذه البلاوي المعروفة، التي كانت جاثمة على صدر مصر قبل 1952".

لكن المؤلف يعقِّب بتفسير وحيد يعترف بتجنّيه الواضح، وهو للدكتور حسين مؤنس: "خلال 150 عاما من تاريخ مصر (1805- 1952) حكم الباشوات بلادنا وملكوا كل شيء، السياسة والجاه وصدارة المجتمع والقصور والأموال والضياع. وفي 23 يوليو انتزعت منهم الدولة السياسة وصدارة المجتمع، ولكن، من الذي استولى على القصور والأموال والضياع؟ السوبر باشوات! باشوات بلا ألقاب، وناس بلا إنسانية، ومواطنون بلا وطنية".

ويشير طايع الديب على سبيل المثال إلى المناصب والرئاسات الشرفية لعبد الحكيم عامر، الرجل الثاني في نظام يوليو، والذي كان يتولى 10 مناصب تقريبا ما بين سياسية وشرفية.

ثم يعود الكتاب بعد صفحات وينقل على لسان الشاعر صلاح جاهين تفسيرًا آخر: "أغزر النكت السياسية كان في عصر عبد الناصر، فقد كانت عدة جبهات تهاجمه بشكل عنيف جدا، بما في ذلك اليمين واليسار، والمثقفون الذين اختلفوا مع منهجه، والخاضعون للحراسة، وغيرهم. هؤلاء جميعا اصطدموا بعناصر نموذجه السياسي، ومن هنا كان اندفاعهم في السخرية منه كبيرا. وأذكر أن أجهزة الأمن وقتها كانت تضم خبراء في تحليل هذه النكات، وبعض أولئك الخبراء كان يستطيع أن يعرف – مثلا- مكان ظهور النكتة، من شبرا إلى بورسعيد".

ويقول المؤلف إنه في فترة العشر سنوات ما بين 1957 إلى 1967، تراجعت النكتة السياسية، "نظرًا للقوة الحماسية الدافعة التي أعطتها خطب عبد الناصر للجماهير في كل أنحاء العالم العربي، وليس في مصر فقط. ثم عادت النكتة مرة أخرى بعد هزيمة 67 المنكرة"، لافتا إلى أن بعضها كان منقولا من دول أوروبا الشرقية الاشتراكية، ثم يجري "تمصيره"، بحكم تشابه الظروف السياسية لمصر مع هذه الدول.

ويبدو أنه لا يمكن فصل السمات السياسية لعصر عبد الناصر عن النكت حتى في علاقات الثورة مع أعدائها، إذ ظهرت "نكت مصنوعة" على يد جهات خارجية وداخلية لتشويه التجربة الناصرية.

وينقل المؤلف عن الأكاديمية العراقية حميدة سميسم، أنه بعد العدوان الثلاثي على مصر، شهدت تلك الفترة "صورا متعددة للمحاولات الاستعمارية من أجل مسخ الصورة القومية لجمال عبد الناصر، سواء بابتكار نكت جديدة ضده، أو باستعمال نكت عرفتها العصور العالمية السابقة مع إجراء بعض التحوير عليها".

ذلك الوضع كان يستدعي – بجانب القبضة الأمنية – رصد النكت في الشارع لتحليلها، وهي مهمة كان يؤديها جهاز المخابرات بقيادة صلاح نصر، الذي اتهم السفارة الأمريكية بتأليف نكت وترويجها ضد عبد الناصر.

واللافت، بحسب ما ينقله الكتاب عن عبد الله إمام، أن "ناصر" نفسه كان يشارك في التنكيت على الرئيس خلال سهراته الخاصة، معتمدًا على التقارير السرية للنكت والتي كانت تصله باعتباره رئيسًا لأعلى جهاز أمني آنذاك.

وبعد النكسة، وشيوع التنكيت بشكل أكثر جرأة عن ذي قبل، ودخول جهاز الموساد الإسرائيلي على الخط ببث نبرة اليأس لدى المصريين، وصل الأمر بعبد الناصر أن حذر علنًا من خطورة النكت على الروح الوطنية للشعب.

وينقل المؤلف عن عبد الناصر في كلمته بمؤتمر للاتحاد الاشتراكي عام 1968: "كلما وضعنا طوبة قوبلنا بنكتة، نريد تجاوز هذه المرحلة، وأن نبدأ مرحلة جادة وليس معركة نكت".

هكذا، كانت الجدية تلازم عبد الناصر، قبل النكسة أو بعدها، وهي سمة شخصية في الأغلب لازمت الرجل الذي رحل متأثرًا بأمراض لازمته فترة طويلة من حياته، بفعل الضغط السياسي والصراعات التي أدارها أو واجهها.

لكننا ربما نكون قد وقعنا في فخ النمطية إذا خلطنا بين تلك الجدية وبين العبوس الذي لم يكن يتميز به الرجل الذي انطبعت على وجهه آثار كل فترة من حكمه، بدءًا من الحزم والحدة والعنفوان في ذورة توهجه السياسي إلى الحزن والحكمة وملامح الشيب في سنواته الأخيرة.