ما هي فرص بناء السلام في ظلّ جريمة إبادة الطلاب في غزة؟
تضع “جريمة إبادة الطلاب” في غزة — وهي التسمية التي تبناها باحثون غربيون في مجلة العلاقات الدولية البريطانية — الشرق الأوسط أمام أخطر امتحان لجدوى أي مسار للسلام، فبينما تنص حقوق الإنسان على أن التعليم حق أساسي لا يجوز المساس به، عاش الفلسطينيون لعقود وهم يرفعون التعليم إلى مرتبة “قيمة وجودية”، لكن منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، تحول هذا الحلم إلى كابوس يتجسد في صورة منظومة تعليمية أزيلت من الوجود، وجيل كامل مُستهدف، وبيئة اجتماعية محطّمة.
ومنذ ٢٠٢٠ كان الفلسطينيون من بين أعلى شعوب العالم تعليمًا بنسبة أمية لا تتجاوز ٢٪، كما بلغ عدد طلبة التعليم العالي أكثر من ٢١٧ ألف طالب وطالبة، لكن ما حدث بين أكتوبر ٢٠٢٣ ويناير ٢٠٢٤ — وهو تدمير سبعة عشر جامعة ومعهدًا في غزة — لم يكن مجرد قصف لبنايات، بل تفكيك مُمنهج للذاكرة الفكرية، وفق ما يوثّقه مشروع “تصوير الإبادة التعليمية” الذي أطلقه أكاديميون وفنانون من جامعة ليدن في هولندا بالتعاون مع أساتذة وطلبة من غزة.
هذا المشروع، الذي يجمع الصور والشهادات الحية ويعرضها في معارض متنقلة، تحوّل إلى ما يشبه “سجلًّا حقوقيًا” يوثق محاولة محو جيل بأكمله.
وخلال الأشهر الستة الأولى بعد ٧ أكتوبر، استشهد 5480 طالبًا و261 معلمًا و95 أستاذًا جامعيًا، بحسب تقارير الأمم المتحدة لعام ٢٠٢٤. وحتى أبريل ٢٠٢٥ كانت الأرقام قد تضاعفت إلى أكثر من 13 ألف طالب و21 ألف جريح، إضافة إلى 651 معلمًا و2791 مصابًا من الكادر التعليمي. هذه الأرقام، التي لم يشهد العالم لها نظيرًا في أي نزاع معاصر، تطرح سؤالًا جوهريًا: كيف يمكن إعادة بناء سلام فوق أنقاض حياة أكاديمية تم اجتثاثها بالكامل؟
في شهادات مؤلمة جمعها المشروع الهولندي، يظهر التحوّل الأكثر قسوة: معلمون كانوا يدرّسون الفلسفة والرياضيات باتوا اليوم يحملون صفائح المياه فوق الركام، وأمهات فقدن أبناءهن يصفن التعليم بأنه “كان بوابة الخلاص.. قبل أن يُغلق إلى الأبد”. إحدى المربيات قالت: “كيف أشرح لطفلي معنى السلام، وهو يبحث عن ماء ليشرب، ويخاف من الليل والنهار معًا؟”.
إلى جانب المأساة الإنسانية، تكشف التحليلات الغربية عن فجوة هائلة في القوة التعليمية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فبينما يملك الجانب الإسرائيلي منظومة تعليمية موحّدة مندمجة في مؤسسات الدولة والدفاع، يعاني الفلسطينيون من الانقسام السياسي والحصار وضغوط المانحين ومحاولات التدخل في المناهج.
ويشير باحثون في مشروع ليدن إلى أنّ المناهج الإسرائيلية، رغم تنوع المدارس، تُبلور رواية قومية ودينية متماسكة، وتُنتج خطابًا يُعزّز التفوق، بينما يعيش الفلسطينيون ازدواجية خطابية بين هويّة مُحاصَرة ونظام تعليمي مهدد الوجود.
هنا يصبح سؤال السلام أكثر تعقيدًا. فالتعليم، الذي قد يشكّل عادة رافعة للوعي والتعافي والمصالحة، يحتاج أولًا إلى بنية تحتية، وإلى بيئة نفسية آمنة، وإلى ثقة بوجود مستقبل أصلًا. يقول أحد الأكاديميين المشاركين في المشروع: “التعليم رسول سلام… لكنه اليوم بلا مدرسة، بلا طلاب، بلا أبواب ولا جدران.”
ومن الصعب في هذه الظروف إقناع طفل فقد مدرسته، أو معلّمة فقدت عائلتها، بأنّ هناك “سلامًا” يستحق الانتظار. فالسلام ليس اتفاقيات تُوقّع في مؤتمرات؛ بل عمليات إعادة بناء الثقة والكرامة، واستعادة الروتين التعليمي، ودمج الدعم النفسي في المدارس، وإعادة ربط الإنسان بالأمل.
لكن كيف يمكن ذلك بينما لم تُصدر أي جامعة إسرائيلية كبرى بيانًا واحدًا يدين تدمير الجامعات الفلسطينية أو مقتل زملاء المهنة على الجانب الآخر من الجدار؟ وكيف يمكن الإيمان بتوازن روحي أو أخلاقي بينما الجامعات نفسها — وفق باحثين في العلاقات الدولية — أصبحت “مراكز إنتاج معرفة أمنية” عبر برامج تعليمية مخصصة للجنود وتطوير تقنيات عسكرية؟
وأضافت المجلة أن السلام — في قاموس التعليم — ليس غياب الحرب فقط، بل وجود فرص. ومع أن هذه الفرص اليوم شبه معدومة، إلا أنّ توثيق الجريمة هو بداية الطريق. فمشروع “تصوير الإبادة التعليمية” لا يُسجّل الدمار فحسب، بل يحفر في الذاكرة الجماعية حقيقة أن تدمير الجامعات لم يكن عرضيًا، بل محاولة لكسر الإرادة وطمس المستقبل.
ويقدم أحد أساتذة غزة — وهو من بقي على قيد الحياة بعد فقدان معظم أسرته — خلاصة مُرّة لكنها صادقة: “لا يمكن للسلام أن يولد من رماد التعليم. لكننا سنوثّق كل شيء… لأن الحقيقة وحدها لا تُقصف.”
هذه الشهادة تُجسّد الواقع: لا سلام بلا تعليم، ولا تعليم بلا أمان، ولا أمان تحت وطأة الإبادة. وبذلك يصبح السؤال الحقيقي ليس: هل من فرص للسلام؟ بل: كيف يمكن للعالم أن يسمح ببقاء جريمة إبادة الطلاب خارج إطار المحاسبة؟.