تحول استراتيجي في الغرب.. تصاعد الخلافات الأمريكية الأوروبية يسعد موسكو
رجحت مجلة دير شبيجل الألمانية أن تصاعد الخلافات بين الولايات المتحدة وأوروبا لا يُقرأ فقط كأزمة عابرة في العلاقات عبر الأطلسي، بل كتحول استراتيجي يفتح الباب أمام موسكو لتوظيف الانقسامات لصالحها.
أوروبا بين الانقسام والارتباك
منذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، بدا أن الغرب موحد في مواجهة الكرملين. غير أن التطورات الأخيرة تكشف عن تصدعات متزايدة بين واشنطن والعواصم الأوروبية، سواء في ما يتعلق بملف المساعدات العسكرية لكييف أو في إدارة العقوبات الاقتصادية على موسكو. هذه الخلافات لم تعد مجرد اختلاف في التكتيك، بل تحولت إلى جدل استراتيجي حول حدود الالتزام الأمريكي تجاه أوروبا، خاصة مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وما يرافق ذلك من خطاب متشكك في جدوى التحالفات التقليدية.
موسكو المستفيد الأول
بالنسبة لروسيا، فإن أي شرخ في الموقف الغربي يُعد مكسبًا استراتيجيًا. الكرملين يدرك أن تراجع التنسيق عبر الأطلسي يضعف الضغط الجماعي عليه، ويمنحه فرصة لإعادة ترتيب أوراقه في أوكرانيا والشرق الأوروبي. فبينما تراهن واشنطن على تقليص الإنفاق العسكري وتحويل الاهتمام نحو آسيا، تجد بعض الدول الأوروبية نفسها أمام معضلة: هل تستمر في دعم أوكرانيا منفردة، أم تبحث عن تسويات مع موسكو لتخفيف الأعباء الاقتصادية والأمنية؟
الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي
الخلافات لا تقتصر على محور واشنطن–بروكسل، بل تمتد إلى داخل الاتحاد الأوروبي نفسه. ألمانيا وفرنسا تتبنيان مقاربات مختلفة: برلين تميل إلى الحذر وتوازن بين دعم أوكرانيا وحماية اقتصادها، بينما باريس تدفع نحو استقلالية أوروبية أكبر عن المظلة الأمريكية. هذا التباين يخلق فراغًا استراتيجيًا تستغله روسيا عبر تعزيز علاقاتها مع دول مثل المجر وصربيا، التي تُظهر استعدادًا أكبر للتقارب مع موسكو.
البُعد الاقتصادي
الأزمة ليست سياسية فقط، بل اقتصادية أيضًا. ارتفاع أسعار الطاقة وتراجع إمدادات الغاز الروسي وضع أوروبا أمام تحديات غير مسبوقة. في حين ترى واشنطن أن أوروبا يجب أن تتحمل نصيبًا أكبر من التكلفة، يشعر الأوروبيون بأنهم يدفعون ثمنًا مضاعفًا: تكلفة الحرب، وتكلفة الانفصال عن السوق الروسية. هذا التوتر الاقتصادي يعمّق الانقسام ويمنح روسيا ورقة ضغط إضافية، خاصة مع محاولاتها توجيه صادراتها نحو آسيا لتعويض السوق الأوروبية.
البُعد الأمني والعسكري
على المستوى العسكري، يزداد القلق الأوروبي من تراجع الالتزام الأمريكي بحلف الناتو. تصريحات ترامب حول تقليص الدعم أو إعادة النظر في التزامات واشنطن الأمنية أثارت مخاوف حقيقية في أوروبا الشرقية، حيث تشعر دول مثل بولندا ودول البلطيق بأنها قد تُترك وحيدة في مواجهة روسيا. هذه المخاوف تدفع نحو نقاش أوسع حول ضرورة بناء قدرات دفاعية أوروبية مستقلة، وهو نقاش يراه الكرملين فرصة لتشتيت الموقف الغربي.
البُعد الإعلامي والدعائي
لا يقل أهمية عن ذلك البُعد الإعلامي. موسكو تستثمر في تضخيم الانقسامات عبر أدواتها الإعلامية والدبلوماسية، مروجة لفكرة أن الغرب لم يعد موحدًا وأن أوكرانيا قد تُترك لمصيرها. هذا الخطاب يهدف إلى إضعاف الروح المعنوية في كييف، وإقناع الرأي العام الأوروبي بأن الحرب عبثية وطويلة الأمد، ما يزيد الضغوط على الحكومات الأوروبية للبحث عن مخرج تفاوضي.
ووفقا للمجلة الألمانية، يمكن القول إن تصاعد الخلافات الأمريكية الأوروبية يمثل لحظة فارقة في ميزان القوى الدولي. فبينما تسعى واشنطن إلى إعادة تعريف أولوياتها العالمية، تجد أوروبا نفسها أمام اختبار صعب: إما أن تعزز وحدتها وتتحمل مسؤولية أكبر في الدفاع عن أوكرانيا، أو أن تسمح لموسكو باستغلال الانقسامات لصالحها. في كلتا الحالتين، يبدو أن الكرملين يراقب المشهد بارتياح، مدركًا أن الانقسام الغربي هو أفضل سلاح يمكن أن يمتلكه في هذه المرحلة.