الخميس 25 أبريل 2024 الموافق 16 شوال 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تقارير

"سنوات النار والثلج" (6): نصيحة "عبدالناصر" تنقذ "طالباني" من الاعتقال

الرئيس نيوز

سر "البرقية المشفرة" التي حصل عليها الأكراد وكتب عنها حسنين هيكل مقاله الشهير "بصراحة"

مشروع لم يكتمل لرجل دين وهو طفل، مقاتل يحمل السلاح ويعيش في الجبال، سياسي مخضرم يصبح أول رئيس جمهورية كردي للعراق؛ هكذا عاش الرئيس الراحل جلال طالباني حياة حافلة بين "النار والثلج"، يمكننا أن نتعرف منها، إلى جانب سيرته الذاتية الثرية، على تاريخ العراق والعالم العربي في أكثر من نصف قرن.

كتاب "مذكرات جلال طالباني.. سنوات النار والثلج"، للكاتب معد فياض، يقترب للغاية من الزعيم السياسي الكردي، في مهمة شاقة وثرية، عايش فيها محرر المذكرات الرئيس الذي يتمتع بالحيوية واليقظة، في أكثر من مدينة، وأنتج لنا العمل الصادر قبل سنتين عن دار "سطور" في بغداد.

ولا يخفي المؤلف إعجابه الشديد بشخصية "طالباني"، بل إن هذا هو ما دفعه لتحرير مذكراته التي يجدها مهمة شاقة، إذ "كيف يمكن لنا أن نلملم أطراف ذكريات رجل بدأ ينسج تاريخه الاجتماعي والثقافي والسياسي وهو في العاشرة من عمر طفولته".

"الرئيس نيوز" يعرض على حلقات مذكرات أول رئيس كردي في تاريخ الدولة العراقية، وسابع رئيس عراقي، ذلك الرجل الذي رفع شعار "الحرية لكردستان، والديمقراطية للعراقيين".

 ما زلنا في أجواء لقاءات جلال طالباني مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، علما أن السياسي الكردي أصبح ورقة مهمة في القضية الكردية مع الحكومة العراقية ونظام عبد السلام عارف.

فشلت إذن المفاوضات التي كانت وشيكة وقتها من أجل منح الأكراد حقهم في الحكم الذاتي، ونحن الآن في عام 1963، ومفاوضات أخرى على نطاق أكبر تجري بين مصر وسوريا والعراق على إقامة وحدة ثلاثية على غرار وحدة القاهرة ودمشق، والتي لم تستمر إلا ثلاث سنوات.

في القاهرة، أقيم مؤتمر لمناقشة الفكرة، فأرسل الأكراد مذكرة بتوقيع جلال طالباني لتوضيح موقفهم من الوحدة المقترحة قالوا فيها: "إذا صارت وحدة اندماجية فإننا نريد أن تكون كردستان قطرا مستقلا ضمن هذه الوحدة، أما إذا تم الاتفاق على مشروع وحدة فيدرالية فإننا نطالب بحكم ذاتي موسع ضمن الاتحاد العربي المقترح".

يشير "طالباني" إلى أن "هذا الاقتراح كان ردا على كذبة أطلقها حزب البعث مفادها بأن الأكراد يعارضون قيام وحدة عربية بين الأقطار الثلاثة، حتى يستعدي العرب علينا، لكننا قطعنا عليهم الطريق وبرهنا للعرب أننا مع هذه الوحدة وضمنها، سواء كانت اندماجية أو فيدرالية، كنا حريصين على الحفاظ على حقوقنا في كلا الحالتين".

لم يكتف طالباني بالمذكرة، إذ ذهب إلى القاهرة مرة أخرى، والتقى المشير عبد الحكيم عامر، إذ كان "عبد الناصر" في مؤتمر القمة العربي بالإسكندرية، وعندما عاد جلس معه السياسي الكردي وشرح له أكثر مطلبه في حالة إتمام الوحدة الثلاثية.

أكد "طالباني" لـ"عبد الناصر" أن الأكراد ملتزمون بعدم بدء القتال، فأثنى "ناصر" على ذلك قائلا: "حسنا تفعلون"، ثم أضاف: "تعاملوا مع القضية سلميا، وسياسيا، وهكذا تكسبون الرأي العربي والعالمي"، ثم أعطاهم هذه المعلومة التي ستنقذ "جلال" من الاعتقال: "لكنهم (الحكومة العراقية" سيقاتلونكم على أي حال، وهم من سيبدأ"، ثم أضاف: "سوف يعتقلونكم إذا عدتم إلى بغداد".

نصح جمال عبد الناصر "طالباني" بأن يذهب إلى بيروت، وهناك يعقد مؤتمرا صحفيا يعلن فيه ما يلي: القومية الكردية هي قومية أصيلة، وتعيش على أرضها جنبا إلى جنب مع العرب والتركمان وغيرهما من القوميات. أن القومية الكردية لا تعادي القومية العربية بل تؤيدها، وتؤيد حركة القومية العربية وقيام وحدة عربية، وثالثا "نحن لا نريد القتال وإنما نريد حلولا سلمية وسياسية للقضية الكردية".

فعل "طالباني" ما نصحه به "عبد الناصر"، وفي بغداد جرى اعتقال جميع أعضاء الوفد الكردي المفاوض في العاصمة العراقية.

كل هذا زاد من إعجاب مبكر حمله جلال طالباني للرئيس "عبد الناصر"، حيث يقول: صارت بيننا عدة لقاءات منذ أن تشرفت بمعرفته، وصارت بيننا علاقة صداقة جيدة، ويبدو لي أنه أيضا رسم انطباعا جيدا عني".

وينقل "طالباني" عن السياسي العراقي طالب شبيب، وزير الخارجية في حكم عبد السلام عارف، أنهم عندما التقوا الزعيم العربي إبان تشكيل الحكومة بين "عارف" والبعثيين"، أن "عبد الناصر" قال لهم: "أنا أرى فيكم أنتم الشباب العرب الثوار نفس ما أراه في جلال طالباني".

يستكمل "طالباني" بقية تفاصيل علاقته بالرئيس المصري، قائلا إنه عندما كان في أوروبا التي سافر إليها من بيروت، كان يتصل بـ"عبد الناصر" من خلال الكاتب محمد حسنين هيكل، والأخير كان التقاه مع الرئيس بالقاهرة، وسيصبح فيما بعد صديقا له لسنوات طويلة، كما سيعتاد زيارته في مزرعته بمنطقة برقاش عندما ينتهي من كل هذا الصخب ويصبح للعراق.

نعود إلى ما يحكيه "طالباني" عن جمال عبد الناصر: "حققنا الكثير وكسبنا قائد القومية العربية، وزعيم الأمة العربية إلى صف القضية الكردية، فهو عارض، وباستمرار، موضوع الحرب ضد الأكراد، ثم إنه قبل مندوبا كرديا في القاهرة، على الرغم من اعتراض الحكومة العراقية على فتح مكتب للأكراد في العاصمة المصرية، وطالبت بإغلاقه لكنه رفض ذلك، وهو أيد علنا قيام حكم ذاتي للأكراد، وكان هذا تطورا كبيرا في مسار العلاقات العربية الكردية، لذلك أنا اعتبره صديقا للشعب الكردي".

إلى الآن، ما زال جلال طالباني في بيروت، ترسل له الحكومة العراقية ليعود لاستئناف المفاوضات، فيتنبّه لمحاولة استدراجه للاعتقال ويرد عليهم: "سآتي عما قريب"، ثم سافر من لبنان إلى أوروبا، وفي غضون ذلك شنت الحكومة هجمات على مواقع الأكراد، وتعاونت في ذلك مع إيران وتركيا، بحسب "طالباني".

يوضح "طالباني" أن أجهزة الأكراد رصدت برقية مشفرة، أرسلتها وزارة الدفاع العراقية إلى قواتها الموجودة في إقليم كردستان شمال البلاد، تبلغها فيها بأنها سمحت للطائرات والقوات البرية التركية والإيرانية باختراق الأجواء والأراضي العراقية لتعقب المتمردين.

فكّ الأكراد شفرة البرقية، واحتفظ بها "طالباني" في جيبه، وبعد فترة التقى "هيكل" في أحد فنادق باريس وأخبره بالأمر وأعطاه البرقية، فعلق "هيكل": "هذا خطير جدا"، قال "طالباني": "بإمكانكم أن تتأكدوا من الأمر"، وبالفعل حدث ذلك، وكتب رئيس تحرير "الأهرام" عن الموضوع في مقاله الشهير "بصراحة" ونشر أيضا نص البرقية.

في الداخل العراقي، كانت الأمور متأزمة بين عبد السلام عارف والبعثيين، وسرعان ما وقع الانشقاق، وألقى الرئيس العراقي برفاق انقلابه في السجون، لكن بوادر انشقاق من نوع آخر بين جلال طالباني وزعميه مصطفى برزاني، كانت تدفعها الحوادث السياسية في كردستان، بأسرع مما يتمنى الجميع.