الخميس 18 أبريل 2024 الموافق 09 شوال 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تحقيقات وحوارات

«لصوص الحضارة».. كيف دمّر داعش آثار سوريا؟

الرئيس نيوز

إذا أردت أن تستأصل شعبا، شوّه تاريخه ودمر ثقافته واهدم آثاره قبل أن تقتل رجاله ونساءه وأطفاله.. 7 سنوات من الخراب والدمار طالت البشر والحجر، عمدت فيها التنظيمات التكفيرية وعلى رأسها “داعش”، الذي أقام دولته المزعومة في الشام والعراق، إلى تدمير كل ما طالته يدها من تراث سوري يعود إلى آلاف السنين، وما بقي لما يسلم من جحيم القصف المستعر.
وصف “داعش” للآثار بالأصنام وتحطيمها، وتعمده تصوير مقاطع “فيديو” أثناء تنفيذه الجريمة، لم يمنع أن تكون تجارة الآثار أحد أهم مصادر تمويله، إذ ينهب ما حوته المتاحف من قطع تجارة بمئات الملايين من الدولارات لبيعها في السوق السوداء.
4500 موقع أثري خضعت لسيطرة تنظيم “داعش” الإرهابي
محمد نظير عوض، معاون المدير العام للآثار في سوريا، ومدير شؤون المتاحف، والذي عمل أيضا في مبنى مدير المباني التاريخية للمواقع الأثرية، بالمديرية العامة للآثار والمتاحف، كشف في حديثه عن حجم الضرر الذي لحق بالتاريخ الثقافي والحضاري السوري، علاوة على تجارة “داعش” في الآثار السورية منذ 2011 حتى الآن مع سيطرة المسلحين على محافظة إدلب.
أشار إلى أن تقديرات “يونسكو”، تؤكد بيع ممتلكات هذه المعابد والمتاحف ببلايين الدولارات، إذ يوجد 4500 موقع أثري بما فيها مواقع مسجلة في قائمة التراث العالمي خضعت لسيطرة “داعش” في سوريا والعراق.
وأكد عوض أنه بعد نجاح الجيش السوري في استعادة السيطرة على أغلب المحافظات السورية، بدأت مديرية الآثار في حصر الخسائر وإعداد قوائم بالقطع الأثرية التي هربت، مشيرا إلى أن صور الأقمار الصناعية أظهرت إزالة بعض المدن الأثرية بشكل كامل، وكما أظهرت الكثير من الحفر العميقة، التي تؤكد تنفيذ عمليات تنقيب جائرة في مناطق مثل ديرالزور، دورا أوروبوس، وماري، وتل الشيخ حمد، وحلب وتدمر، ومدينة حماة.
وقال إن التقارير تشير إلى مئات الآلاف من القطع الأثرية السورية هربت وطرحت للتجارة في السوق السوداء، مضيفا: “ملف معقد، ونعمل عليه مع منظمات دولية عدة على رأسها يونسكو، وفريق من القانونيين لإعداد الملفات اللازمة واتباع الطرق القانونية والدبلوماسية لاسترداد القطع الأثرية السورية”.
“داعش” أجبر السكان على العمل في التنقيب عن الآثار
وأكمل عوض: “عقب تحرير المحافظات من التنظيمات الإرهابية، فإن السكان أكدوا أن داعش استولى على الآثار عبر منح تراخيص التنقيب للسكان المحليين، وأعطى للمنقبين نسبة تتراوح بين 20 إلى 50 في المائة من العائدات، قبل أن يشتري معدات البحث والتنقيب والاعتماد على عناصر تابعة له لأعمال التنقيب”.
تركيا ولبنان وجهتا استقبال الآثار السورية المهربة
وأشار إلى أن القطع المهربة وجدت طريقها عبر الحدود مع تركيا ولبنان، ومررت معظمها إلى أوروبا وألمانيا وسويسرا، كما أن آلاف القطع ذهبت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، موضحًا أنه يتم تتبع قطع أثرية ظهرت في مزادات للآثار في كمبوديا وتركيا ونيويورك.
وكشف عن سرقة وتهريب 5 آلاف قطعة أثرية من متحف الرقة، مؤكدًا أنه مع تداعيات الأزمة فرغ متحف الرقة من كل القطع الأثرية ووضعت داخل البنك المركزي.
وقال عوض: “لا نعرف الكثير عن متحف إدلب حتى الآن نظرا لسيطرة المسلحين على المدينة، ولكن تشير التقارير إلى أن متحف إدلب الذي لم نستطع نقله نظرا لظروف تتعلق بطبيعة الطريق والبعد الجغرافي للمتحف، من أهم المتاحف السورية وتعرضه للسرقة بشكل كامل يعد كارثة حقيقة”.
وكان المتحف يحتوي على مئات القطع الأثرية والمخطوطات والمعروضات الفلكلورية والزجاجيات واللوحات الجدارية والتماثيل والنقود التي تعود لعصور قديمة وزخارف ولوحات فسيفساء.
كما هُرّبت عشرات القطع الأثرية من منطقة ريف دمشق خلال خروج المسلحين والنازحين من منطقة حرستا وجوبر، بعد تدمير معبد “النبي إلياس” اليهودي، والذي يبلغ عمره ألفي عام، ويعد أحد أقدم المعابد اليهودية في العالم.
وألقي القبض على “داعشي” عثر بحيازته على نسختين نادرتين للتوراة منقوشتين على جلد غزال، ومطرزتين بالذهب وأحجار الزمرد والياقوت، أثناء محاولة بيعهما بمليوني دولار.
مكتب الاسترداد.. محاولة لإنقاذ ما تبقى
في إطار محاولات استرداد القطع، يقول عوض: “أنشأنا حديثا بما يعرف بمكتب الاسترداد، وهو مؤلف من مجموعة من الفنيين والقانونيين يجوبون في المحافظات السورية، للعمل على متابعة القطع الأثرية، وتتبع وجود القطع في الأسواق السوداء واستردادها، وإنشاء قاعدة بيانات رقمية بالقطع المفقودة، كما أن المكتب معني بمتابعة كل المواقع وصفحات التواصل الاجتماعي التي تعرض القطع الأثرية للبيع، أو لعقد مزادات”.
ولكن يقول عوض إن هناك عقبة تواجه تتبع بعض القطع وهي أنها من “التنقيب الجائر”، الذي نفذته التنظيمات الإرهابية، ما يجعلها غير مسجلة، مشيرا إلى أنه تم استرداد 8500 قطعة، غير مسجلة كانت لا تزال داخل سوريا، من خلال مجهودات الجيش ومؤسسات الدولة.
الجيش السوري بذل جهدًا كبيرا لحماية المتاحف والمدن الأثرية
على الرغم من صعوبة الوضع وفداحة الخسارة فإن التجربة السورية في حماية المتاحف والمقتنيات الأثرية تجربة ناجحة جدا على الرغم من الظروف الصعبة وقد أثنت الكثير من المؤسسات الدولية عليها، على حد تعبير عوض.
وأضاف أنه قبل الأزمة أنشأت المديرية العامة للمتاحف والحكومة السورية، العديد من المتاحف في أغلب المحافظات السورية ومنها متاحف كانت قيد الإنشاء مثل متحف الحسكة، وكان متحف حلب واللاذقية وحمص من أهم المتاحف السورية، وأيضا متاحف المحافظات الجنوبية.
مع بداية الأزمة وتفجرها في أماكن عدة بشكل مفاجئ، كانت تداعيات الأحداث سريعة، ما دعا إلى قيام المديرية العامة للآثار المتاحف بدعم من وزارة الثقافة إلى نقل أغلب مقتنيات المتاحف إلى أماكن آمنة.
ونقلت محتويات متحف حلب تحت القصف وفي ظروف أمنية في غاية الصعوبة، تحت حماية الجيش السورى، كما نقلت مقتنيات متحف دير الزور بشكل آمن، وصناديق القطع الأثرية من دير الزور على متن طائرة عسكرية.
أيضا أنقذت 850 قطعية أثرية مهمة ومميزة من منطقة تدمر، في ظروف أمنية صعبة وتحت زخات من الرصاص والقصف.
أيضا نقلت قطع أثرية من حماة ومن الجنوب السوري، وزودت المتاحف بإجراءات أمنية من تحصين أبوبا وتركيب شبكات تصوير للمراقبة، أيضا بتأمين الحدائق المحيطة بالمتاحف، بحيث لا تتأثر بسقوط القذائف.
مدن أثرية دمّرت بالكامل
المحور الثاني المواقع الأثرية السورية المنتشرة على كامل التراب السوري، المدن التاريخية مثل حماة وحمص وحلب ودمشق إلى مواقع تدمر وهي أماكن طالتها العديد من الأضرار، وقال عنها عوض: “نتواصل مع العديد من الجهات الدولية للحيلولة دون تعرضها للأذى، والنهب، كما نتواصل مع النخبة المجتمعية وأيضا الحراس والفنيين في تلك المواقع، مستدركا أن المواقع التي خرجت عن سيطرة الجيش والدولة خلال السنوات الماضية، تعرضت إلى عملية تخريب كامل وممنهج”.
وأكد عوض أن ضررا كبيرا لحق بالمدينة الأثرية، مشيرا إلى أن المدينة تعرضت للتدمير على مرحلتين، “وقد خسرنا مواقع مهمة جدا في مدينة تدمر”.
وتدمر هي إحدى أهم المدن التاريخية، حيث كانت عاصمة مملكة تدمر، ودمر فيها المسرح الروماني، واستخدم كساحة للإعدامات، وموقع كقواعد لإطلاق الصواريخ، كما دمر متحف بعل شمين، بعد حصار دام شهر للموقع الأثري.
ويشير عوض إلى أن الخسارة أيضا كانت على المستوى البشرى، بعدما أعدم داعش الخبير الأثري، خالد أسعد، 82 عاما، الذي شغل منصب مدير آثار تدمر منذ عام 1963 حتى 2003، إذ اتهمته “داعش” بالوثنية وأعدمته بسبب رفضه كشف الكنوز التي تحتوي عليها المدينة.
وعمد التنظيم إلى تدمير قوس النصر، ومعبد بل، وهو إله بابلي أكادي الأصل، وهو يمثل في الديانة البابلية رب الأرباب، وهو من أجمل المعابد في الشرق.
وطال التدمير المدافن البرجية، حيث آمن التدمريون بالحياة بعد الموت لذلك أطلقوا على المدافن اسم “بيت الأبدية”، وكان لكل أسرة مدفنها الفخم المزخرف بالجص أو الحجر، هي أقدم المدافن، ومعظمها يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد. كانت بسيطة وفي بداية القرن الأول الميلادي بدأت العناية بها فصارت تزخرف من الداخل والخارج. وعادة ما تكون مربعة الشكل مبنية فوق مصطبة لها أدراج.
يقول عوض “بذلنا مجهودا كبيرا في محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المدينة العريقة، وقد نجحنا في إنقاذ منحوتة إسدالات التي أقدموا على تكسيرها وتدميرها، لكننا نجحنا بترميم هذه القطعة الأثرية ووضعها في المتحف الوطني، بالتعاون مع يونسكو، وهو التمثال الموجود منذ القرن الأول قبل الميلاد، والذي كان يعتبره الإخشيديون إله “مقت العنف”.
واحتلت “داعش” المدينة من يوليو عام 2012 إلى 2016، وخلال أربع سنوات عمدت الجماعات الإرهابية إلى تدمير القلعة التي تعود للقرن الـ 13، والمسجد الكبير الذي بني في القرن الثاني عشر، والكنائس المسيحية التي تعود إلى القرن السادس عشر، أو المساجد والقصور العثمانية التي يعود تاريخها المعماري إلى العصر اليوناني والروماني، كذلك مدينة حمص، وقد وصلت تقارير مؤخرا من دير الزور، بوجود أضرار بالغة بالكنائس والجوامع.
خطط الترميم والصيانة تحتاج إلى الدعم
هناك خطط ودراسات عديدة للبدء في إعادة ترميم وصيانة المواقع الأثرية المدمرة، ولكن مع الأسف يلزمنا الكثير من الأموال والدعم الفني، يكشف عوض أن المشروع الأول على لائحة مديرية الآثار، هو إنقاذ مدينة تدمر حيث إنها مسجلة على لائحة التراث العالمي، ويجب أن تشارك مؤسسات دولية في عملية الترميم.
وأضاف أن هناك وعودا من الجانب الروسي، والذي يعود له الفضل في تحرير المدينة مع الجيش السوري ومشاورات وزيارات بين موسكو ودمشق في إطار مشروع ترميم تدمر بالتعاون مع يونسكو، ونحن في المديرية العامة للآثار لدينا أمل كبير في حشد الجهود الفنية والمالية للعمل.
أما عن ترميم مدينة حلب، فيقول عوض: “بدأت الفرق الفنية تجوب المدينة القديمة لوضع التقارير اللازمة حول الأضرار ونسبها، جرى عملية إدارة للأنقاض الأثرية للمحافظة عليها وكثير من المدنيين عادوا للحياة، وزارة الثقافة ومنظمات أخرى كالمنظمة الأغا خان، وقد أبرمت اتفاقية للترميم قلعة حلب، وهناك أيضا أعمال في الجامع الأموي، وننتظر الأموال اللازمة للبدء في كل دراسات الترميم والصيانة.