الجمعة 29 مارس 2024 الموافق 19 رمضان 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تقارير

ترك اليسار وأنصف سعد زغلول.. «سر الستينيات» في حياة طارق البشري

الرئيس نيوز

توفي أمس الجمعة، المفكر والقانوني الكبير المستشار "طارق البشري" عن عمر يناهز الثامنة والثمانين بعد رحلة عطاء زاخمة أثرت الوجدان المصري، والعربي في فُلَكي القانون والفكر، مُبحرًا بين أمواج الحقيقة واليقين فكرًا وقانونًا وعقيدةً.


من يتتبع سيرة "البشري" يجده منتميًا لجيل عاصر العديد من الأحداث المصرية والعالمية في التاريخ الحديث، ما بين صعود وهبوط، ملكية وجمهورية، انتصار وانكسار، إلى جانب ما شكل ماهية هذا الجيل من تغيرات إنسانية وسياسية واجتماعية في الحرب العالمية الثانية.

 أحدثت تلك الحرب قولبة كبرى بتكوين استعمار جديد حمل فلسفة جديدة في وقتها عبر الهيمنة الفكرية والثقافية، ما بين القطب الغربي بزعامة إمبراطورية النسر"الولايات المتحدة الأمريكية"، والقطب الشرقي بزعامة إمبراطورية الدب"الاتحاد السوفيتي".


ولد "طارق البشري" في الأول من نوفمبر من العام 1933، بحي الحلمية العريق بالقاهرة، وتنتمي أصوله إلى محلة بشر بمركز شبراخيت، بمحافظة البحيرة.


تولى جده لأبيه "سليم البشري"، شيخ السادة المالكية في مصر – مشيخة الأزهر، وكان والده المستشار عبد الفتاح البشري رئيس محكمة الاستئناف حتى وفاته في العام 1951، كما أن عمه الأديب الكبير ورائد من رواد التنوير في الفكري المصري الحديث "عبد العزيز البشري"، صاحب الكتب القيمة "القطوف"، "المختار"، "المرآة".


تخرج "البشري" من كلية الحقوق، جامعة القاهرة في العام 1953، عين بعدها في مجلس الدولة واستمر في العمل حتى تقاعده في العام 1998، بدرجة نائب أول لرئيس مجلس الدولة المصري، ورئيسًا للجمعية العمومية للفتوى والتشريع، ورئيس لجنة التعديلات الدستورية عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير في العام 2011.


كان "البشري" من أنصار الفكر اليساري، وقت توغل اليسار عبر الاتحاد السوفيتي، ومنافسته القوية لليمين الأمريكي، مُنظرًا لليسار المصري مع الدكتور "محمد عمارة" في أوقات المد الثوري بدول العالم الثالث، وبزوغ شموس القومية العربية، والإفريقية في ظل وجود زعامات كبيرة تبنت الأفكار القومية والوطنية.


ظل "البشري" على هذا المنوال إلى أن جاء يوم الخامس من يونيه من العام 1967، مُحدِثًا دويًا هائلاً من خلال حرب الأيام الست، متأملاً مع زملاءه في الطريق، سُبل ترتيب الأوراق من الداخل والخارج بعد اصطدام الحلم الوردي بصلادة الواقع المرير.

جاء تحوله للفكر الإسلامي متزامنًا مع الدكتور "محمد عمارة"، والدكتور "مصطفى محمود" وذلك بمقاله الأول "رحلة التجديد في التشريع الإسلامي"، مفندًا الأسباب التي أدت للهزيمة المفاجئة وسط صيحات التهليل والثقة المتناهية.

اتجه "البشري"، إلى لعبة التفكيك والتفنيد عبر الرؤية التأريخية الممزوجة بالحس القانوني، محاولاً تقصي الأسباب التي أدت لهزيمة الفكرة القومية والوطنية، وسط أشواك الإمبريالية العالمية وذلك بمختلف المؤلفات في التاريخ والقانون والفكر.

قدم كتابه الأول في العام 1972 بعنوان "الحركة السياسية في مصر"، محاولاً توضيح ماهية السياسة في مصر منذ تاريخها الحديث مستندًا على منهج المؤرخ والقانوني الكبير "عبد الرحمن الرافعي" في التعرف على الشخصية المصرية من زوايا متعددة.

في العام 1975 قدم كتابه المُنقب عن التجربة الناصرية بما لها وعليها، بكتابه "الديمقراطية والناصرية" في أوقات التألق والانكسار، في العام 1977 قام بدور القانوني والمؤرخ في وقت واحد، منصفًا زعيم الأمة المصرية "سعد زغلول" عقب سنوات من التشويه في الحقبة الناصرية، وذلك بكتابه المهم "سعد زغلول يفاوض الاستعمار : دراسة في المفاوضات المصرية البريطانية 1920 – 1924".

وقف "البشري" في دائرة المراجعة الفكرية من خلال مؤلفات تحت اسم سلسلة "في المسألة الإسلامية المعاصرة" والتي صدرت في العام 1996 وحتى العام 1998 من خلال تلك العناوين : "ماهية المعاصرة"، "الحوار الإسلامي العلماني"، "الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر"، "الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي".

سلسلة أرادت أن تنقي الإسلام برحيق القانون والبيان، من التشوهات التي طالته بسبب المغالطات الناتجة عن لعبة الأدلجة والتحزب.

في كتابه " الحوار الإسلامي العلماني" يقول : " إن الحديث عن مستقبل الحوار يعني الحديث عن علاقة الطرفين المتحاورين من حيث هي صيرورة ومآل. وما دمنا فى مجال الضرورة فلابد من الحديث عن الماضي وعن أصل المشكل وما طرأ من بعد. وعندما نكتب عن العلاقة أو الحوار بين الإسلام والعلمانية إنما نقصد بالإسلام منهجًا ينظر إلى الإسلام بوصفه أصل الشرعية ومعيار الاحتكام والإطار المرجوع إليه في النظم الاجتماعية والسياسية وأنماط السلوك بينما العلمانية فى ظني هى اسقاط الأمر والصدور عن الإسلام وغير الدين فى إقامة النظم ورسم العلاقات وأنماط السلوك".

في العام 1988 قدم في جزءين كتاب "بين العروبة والإسلام" متناولاً كيفية فض الاشتباك بين المذهبين، قائلاً: " نحن لا نختار العروبة ولا نختار الإسلام فهما مضروبان علينا، والقطرية مضروبة على كل من المصرى والعراقى والمغربى، كل فى دياره، كما أن الانسان لايختار لغته ولا يختار أباه وأمه لكن اختيارنا يتأتى من زاوية أخرى.

هي كيف نضع الواحد من هذه العوامل إزاء الآخر؟ هل نقيمها فى وضع التنافي أو فى وضع التكامل؟ فى هذا المجال نستطيع أن نعمل ارادتنا، وأن نحقق ما نصبو إليه، واضعين فى حسابنا الملاءمة التاريخية وتقدير الظروف الملابسة".

دشن "البشري" لما رسمه في التعديل الدستوري في العام 2011، في كتابه "نحو تيار أساسي للأمة" قائلاً : "صد بالتيار السياسي الأساسي الإطار الجامع لقوى الجماعة والحاضن لها، وهو الذي يجمعها ويحافظ على تعددها وتنوعها في الوقت نفسه.

إنه ما يعبر عن وحدة الجماعة من حيث الخطوط العريضة للمكون الثقافي العام، ومن حيث إدراك المصالح العامة لهذه الجماعة دون أن يخل ذلك بإمكانات التعدد والتنوع والخلاف داخل هذه الوحدة.

ويكون التيار أساسًا سائدًا عندما تكون لديه القدرة والصياغات الفكرية والتنظيمية التي تمكن من تأليف أكثر ما يمكن تأليفه من خصائص كل القوى والفئات الثقافية والسياسية الاجتماعية، فضلًا عن الطوائف والمهن والجامعات المختلفة ذات الثقل، ويكون سائدًا عندما تكون لديه القدرة أيضًا على وضع صيغة للتوازن بين مختلف القوى والجماعات.


وبهذا المعنى يمكن القول بأن فكرة التيار الأساسي تعد بوجه من الوجوه امتدادًا لحركة المشروع الوطني العام، الذي تمت بلورته عن طريق الاستخلاص من الواقع الحي للحركة السياسية والثقافية القائمة في المجتمع".