السبت 20 أبريل 2024 الموافق 11 شوال 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تحقيقات وحوارات

د. شريف يونس: هؤلاء وراء نغمة "ولا يوم من أيامك يا مبارك".. والدولة لا تلتفت لضغوط الطبقة الوسطى (2- 2)

الرئيس نيوز

- مبارك "قرَف الإخوان" لكنه ترك لهم مساحات للحركة.. وأزمته كانت في الشرعية غير الكافية

- صعود جمال مبارك لم يكن مجرد "شهوة أسرية" للسلطة.. ومجموعته حازت امتيازات دون تحمل أعباء

- السادات رأى تقدم مصر في القطاع الخاص.. وسقوط الاتحاد السوفييتي أثبت عدم جدوى اشتراكية الدولة

- عبد الناصر كان رجل دولة حقيقي وليس ناشطًا سياسيًا.. و99 % من جهاز دولته كان "مع الرايجة"

- الدولة حاليًا صلبة أمام الضغوط الخارجية.. وانتهى عصر "الاستقواء" بها في مجال حقوق الإنسان

 

وفق رؤيته التي تجمع الفترة من عام 1952 إلى 2011 تحت مُسمّى "دولة يوليو"، يحمِّل الدكتور شريف يونس، الرئيس الأسبق حسني مبارك مسئولية "تفسُّخ هذه الدولة".

ويرى أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عن حلوان، أن سياسات "مبارك" الذي "لم يقم بمواجهة جدية لأي شيء"، فكّكت الجهاز الإداري للدولة، وسمحت بمجموعات مصالح تضاربت أهدافها على حساب المجتمع، في غيبة من السلطة الحاكمة.

في هذا الجزء الثاني من حوارنا المطوّل مع صاحب "البحث عن خلاص"، يقدم شريف يونس قراءته للسياسات الداخلية لرؤساء مصر الثلاثة: جمال عبد الناصر، أنور السادات، حسني مبارك، وما يتصل بها من تحولات يراها منعكسة على الحاضر.

نبدأ بالماضي القريب، عهد "مبارك"، الذي يأخذ حيزًا كبيرًا من الحديث، ثم نعود إلى "السادات" الذي يقرأ "يونس" سياساته بقدر كبير من التفهّم، قبل أن نصل إلى "عبد الناصر" الذي يفضل "يونس" أن ينتزعه من أي فهم خاطئ يتصور قائد ثورة 23 يوليو ناشطًا سياسيًا وليس رجل دولة حقيقي.

اقرأ أيضًا: د. شريف يونس: السياسة المصرية حاليًا "غاطسة تحت السطح".. و30 يونيو إنجاز الشعب والجيش (1- 2)



"ولا يوم من أيامك يا مبارك!". عبارة بدا أنها ترددت على سبيل السخرية في البداية، لكنها ترسخت كنغمة أو "إفيه شعبي"، وكأنها تمتدح – بأثر رجعي - سياسات الرئيس الأسبق الذي أسقطه المصريون في 2011.

في سياق حديثه عن "الدولة الجديدة" التي يبنيها الرئيس عبد الفتاح السيسي وسياسات التحول الاقتصادي، تطرق شريف يونس لهذه الجملة التي يرى أن ترديدها أمر "منطقي"، وفقًا لتحليله للسياسات الاقتصادية والاجتماعية لنظام حسني مبارك.

ثمّة مجموعات عدة يراها "يونس" وراء هذه العبارة؟، يبدأها بجماعة الإخوان: "لننظر لوضعهم حاليًا، أين هم الآن وأين كانوا أيام مبارك؟ مكتب الإرشاد كانت تصريحاته تُنشر في الصحف رغم أنها رسميًّا "جماعة محظورة"! وبينها وبين أمن الدولة تفاهمات وتنسيقات. الإخوان سيقولون "ولا يوم من أيامك يا مبارك".. منطقي".


المجموعة الثانية بالنسبة وفقًا لتحليله هي "التيارات الليبرالية واليسارية". يقول: "كانت تحصل على حريات أكثر في الحركة مما هي عليه الآن، سواء منهم من يحصل على تمويلات خارجية ممن يعملون في مجال حقوق الإنسان، أو من كانوا بالأحزاب ويشاركون في نشاطات سياسية. بخلاف جمعيات بدأت تتكون وتُركت تعمل بحرية.. هؤلاء أيضًا سيقولون "ولا يوم من أيامك يا مبارك".

بالإضافة إلى هؤلاء، يتابع شريف يونس، "هناك مجموعات الحزب الوطني الانتهازية والتيار الإسلامي ككل، حتى من كان منهم من خصوم الإخوان، هؤلاء يتحسرون على زمن كان الناس فيه يتحدثون في الشوارع بقال الله وقال الرسول ويتناقشون في الحديث الفلاني والشيخ الفلاني، البلد كانت رايحة لسكة دروشة، وبالتالي كل من يرى أن الدروشة هي التي ستنشئ الخلافة سيقول ولا يوم من أيامك يا مبارك!".

أيضًا، هناك "كل المجموعات النافذة واللصوص ومن كانوا يحصلون على أراضٍ بأسعار زهيدة. هؤلاء بالطبع خسروا كثيرًا، والمسئولون الذين كانوا يقومون بعمليات فساد ويتلقون رشاوى، نادرا ما كان يُلقى القبض على أحد برشوة.


الطبقة الوسطى لها نصيب من تحليل "يونس" الذي يرى أنها "كانت تتمتع بامتيازات كثيرة غير منظورة رغم تأففها أيام مبارك؛ تشتري أشياءً مستوردة رخيصة لأن الدولة كانت تدعم الدولار، وتستهلك طاقة مدعمة بمختلف أشكالها. أما من يعملون في القطاع الخاص برواتب عالية، فقد أصبحوا مضطرين إلى أن يحسبوا تكاليف رفاهيتهم، وهذه مشكلة بالنسبة لهم".

ويُكمل: "هذه الطبقة معتادة على الشكوى المستمرة، تبتز المجتمع، وتحصل على أي مكاسب بالضغط. مشكلتها الآن أن هذا الأسلوب لم يعد يُجدي".

ويشير كذلك إلى "من يتلقون تمويلات من أمريكا وأوروبا لكي يدافعوا عن حقوق الإنسان، بما يجعلهم نوعًا خاصًا جدًّا من المناضلين الذين يكسبون من النضال مستوى معيشة يفوق أقرانهم من الخريجين"، مضيفًا أن "هؤلاء كانوا مقتنعين بما يفعلون وفي الوقت ذاته مستفيدين، غير أنهم حاليًا لم يعد في إمكانهم ممارسة نشاطاتهم بلا قيد سوى ما تطلبه المؤسسات المانحة التي تحميهم".

يتوقف ليضرب مثالًا يراه يوضح الفارق بين ما كان يحدث وبين ما يحدث حاليًا: "حين كان يُلقى القبض على واحد منهم، كان مقالًا صحفيًّا في "نيويورك تايمز" مثلًا أو بيانًا من منظمة "هيومان رايتس ووتش" كفيلا بجعل نظام مبارك يرتعش. الآن، حين تُصدِر إحدى هيئات الأمم المتحدة بيانًا ترد الخارجية ببيان. لا شك أن صلابة الدولة أمام الضغوط الخارجية وافتقارهم إلى ظهير شعبي من المواطنين جعلهم أيضًا يقولون "ولا يوم من أيامك يا مبارك!".

ثم يدلِّل بمثال آخر حديث: "في موضوع إصلاح التعليم من سيعارض النظام؟ أولياء الأمور والطلبة والمدرسون والإدارة. لأن المنظومة فسدت منذ زمن طويل، وبالتالي حدث نوع من التكيُّف مع ذلك بالتدريج، وكي تُصلِح الوضع من الطبيعي أن تواجه مقاومة من البعض، نعم كانت هناك عناصر تنتقد المنظومة في السابق، لكن هناك عناصر أخرى كثيرة استفادت من تدهور المنظومة، وبالتالي كل القطاعات التي تُمَس تقول "ولا يوم من أيامك يا مبارك!".


في المقابل، يستبعد أستاذ التاريخ المعاصر الطبقات الشعبية الدُنيا من هذه "البكائية": "هؤلاء كانوا يعانون، لكن تمَّت حمايتهم بإجراءات الحماية الاجتماعية، وصُرفت مليارات في برامج "تكافل وكرامة"، ودعم بطاقات التموين، وسياسات كثيرة نُفذت من أجل الذين تأثروا في عملية الإصلاح الاقتصادي".

إذا انتقلنا من سياسات "مبارك" التي احتوت كل ممن يقولون "ولا يوم من أيامك!"، إلى شخصية حاكم ظل على رأس السلطة 30 سنة كاملة، فإن شريف يونس يراه في المجمل كالتالي: "رجل وطني مثل كل من حكموا مصر"، رافضًا الطرح القائل بأنه كان يحمي مصالح أجنبية: "الرئيس الأسبق كان يرى أن الحل أن يحدث توازنات، أعطى لكل جهة أو مصلحة أو تيار شيئًا".

يرفض "يونس" أيضًا تصور أن حسني مبارك "حاكم محدود الإمكانيات". يشرح: "المسألة هي أنه لم يكن يريد مواجهة، هذه كانت سياسته، أن "يقرفك" فتقبل بأقل مما كنت تريد. "قرَف" الإخوان لكن ترك لهم مساحات للحركة. الديمقراطيون واليساريون عندما كانوا يوسِّعون من نشاطهم قليلًا يعتقل بعضهم، لكن يترك لهم مساحات أيضًا. أمريكا كانت تضايقه في أواخر عهده وتضغط عليه، فجاء رده مرنا: سنجعلها انتخابات تعددية وليست استفتاءً، لكن بشروط. إلى آخره".


وهكذا، يُكمل "يونس": "لا أحد خسر تمامًا، ولا مواجهة حاسمة تمّت مع أي طرف. كل من يريد شيئًا يعطيه بعضًا منه، ليُبقى الجميع على شعرة معاوية مع النظام، آملا أن الوضع سيتحسن مستقبلًا!".

ويرى صاحب كتاب "مسارات الثورة" أن "مبارك" لم تكن لديه شرعية كافية لإحداث تحولات مهمة، ويفسِّر ذلك بدايةً من "السادات" الذي كانت لديه شرعية "أكتوبر" ثم "السلام"، مع أنه "كان مكروهًا للغاية في نهايات عهده؛ الصلح مع إسرائيل أغضب كثيرين من ضمنهم الإسلاميين، وقراراته الاقتصادية لها انعكاسات سيئة على الناس، وبالتالي فقد جزءًا كبيرًا من شرعيته".

بالتالي، - بحسب تحليل "يونس": "ورث "مبارك" شرعية "السادات" المتقلصة. حاول إنجاز إصلاحات في بدايات حكمه، وحقق بعضها، لكنه ترك الأمور تتدهور بالتدريج، ببطء شديد، فتفككت الدولة، وفي تلك الأثناء لم يكن لديه الشرعية الكافية ليقوم بإصلاح جوهري". وعلى سبيل المثال: "عندما كان يُقدِم مثلًا على تحريك سعر الدولار كان النقد يتصاعد بغير أن توجد شرعية كافية لمواجهته".

وأخيرًا يطرح سؤالًا بدا أنه يحمل إجابته: "هل كان في مقدور مبارك مثلًا – وفق كل هذا - أن يسيطر على الإخوان بالشكل الذي حدث بعد 30 يونيو ويواجههم؟!".

على النقيض تمامًا من "مبارك" الذي لم يكن يفضِّل الحسم والمواجهة، وإذا عدنا بالتاريخ 30 سنة إلى الوراء، تبرز شخصية الرئيس أنور السادات كصاحب نظرية "الصدمات الكهربائية".

تشهد على ذلك تحولاته العنيفة في تحويل مسار العلاقة مع إسرائيل، وفي طرح سياسة اقتصادية مغايرة هي "الانفتاح الاقتصادي"، وفي أسلوب إدارته للدولة.


يقرأ شريف يونس السياسات الداخلية لـ"السادات" على طريقة "ضع نفسك مكانه". يقول: "لم يكن هدف السادات أن تظل مصر دولة قطاع عام، كان يريد أن يبدأ بناء قطاع خاص، وأن هذا هو الطريق الوحيد لتقدم مصر، وأن الطريقة القديمة (الاشتراكية) لن تُجدي. وبالمناسبة ثبت عدم قدرتها على الاستمرار والاتحاد السوفييتي سقط- لكن بصرف النظر، السادات كان مقتنعًا أن القطاع العام لن يكون رافعة التنمية في المستقبل ولا بُدَّ من تفكيكه، لكن لم يكن باستطاعته الإقدام على تلك الخطوة لأنه كان يواجه مشكلة اقتصادية ملحة وحادة".

وينوّه: "هو رجل دولة في النهاية ومسئول عن توفير أبسط مقومات الحياة لعشرات الملايين، ولكي يستمر هذا كان لا بُدَّ من دعم القطاع العام- مؤقتًا. ولذلك القطاع العام نما نموًا كبيرًا أيام السادات".

وبالنسبة لسياسة "الانفتاح الاقتصادي" الذي أنتج اضرابات شعبية فيما بعد؟ يرى "يونس": "السادات كان يريد إنشاء قطاع صناعي خاص قوي، لكن ذلك لم يحدث لأن البنية لم تكن مهيأة". في رأيه، فإن التحدي بالنسبة لـ"السادات" في السياسات الاقتصادية كان أنه "بدأ من نقطة الصفر". يقول: "لم يكن هناك طبقة رجال أعمال قوية أو كوادر صناعية مهمة إلا في القطاع العام؛ وبالتالي قدرة الاستثمار الخاص محدودة".


رحل "السادات" في حادث "المنصة"، أكتوبر 1981، وترك كل التحولات "غير المكتملة" إلى نائبه حسني مبارك الذي استطاع – استكمالًا لاستعراض "يونس"- أن "يبني مدنًا صناعية في برج العرب و6 أكتوبر وبعض الصناعات التي كانت في البداية صناعات استهلاكية، لكن الأمور تحسنت مع الوقت".

ارتباطًا بهذه العلاقة، أو الإرث بين الرجلين، يَخلُص أستاذ التاريخ المعاصر إلى أن "مبارك" أكمل رؤية "السادات"، غير أن الأخير كان ينتهج سياسة الصدمات، بينما الأول أخذ بالتدرُّج وسياسة التوازنات: "لا أحد يغضب، كل طرف سيحصل على شيء مما يريده".

نصل إلى نقطة بدت حاسمة، وهي أن السياسات التي بدأها أنور السادات وأكملها حسني مبارك" أدت – بشكل أو بآخر - في النهاية إلى انفجار شعبي في 25 يناير 2011.


هنا يرى شريف يونس أن "السادات"، ومن بعده "مبارك"، "بدءآ من موارد سياسية واقتصادية محدودة، وبالتالي لم يكن لديهما الأدوات الكافية لإحداث تنمية بشكل متوازن اجتماعيًّا، فلجئا إلى حل كانت له عواقب وخيمة، وهو سياسة الامتيازات، أي توفير مساحة أمان استثنائية لمجموعات معينة، كي تدعم الحكم وتحقق التنمية، وهو ما يُعرَف برأسمالية المحاسيب".

ويواصل "يونس" قائلًا إن هذه التحولات التي نفذها نظام مبارك "تمّت بطريقة تعتمد بشكل جوهري على الفساد، بالتالي فقدت الدولة السيطرة على جهازها، لأنه سقط بالضرورة في قبضة شبكات الفساد".

ويشير إلى أنه عند هذه المرحلة، بدا أن "الحل الوحيد أن المجموعة حائزة الامتيازات تتسلم السلطة مع جمال مبارك أو أن يسقط النظام".


لذلك، لا يعتقد شريف يونس أن صعود جمال مبارك للجنة السياسات بالحزب الوطني كان "مجرد شهوة أسرية" للسلطة. يوضح: "هذا أحد جوانب الأمر، لكن الجانب الآخر أن مجموعة الابن أصبحت القائدة في الاقتصاد، وطالما أن النظام سيستمر بالطريقة نفسها فلا بُدَّ أن يتولى هؤلاء الحكم، وفق منطق أنه لا يستقيم أن تبقى خارج الحكم تأخذ ما تريده دون أن تتحمل أي أعباء أو مسئوليات".


ويلفت هنا إلى إلى قول نُسِب إلى عنصر بارز في المجموعة الاقتصادية لجمال مبارك – وكان أذكاهم في رأي "يونس" - قال في جلسة خاصة لبعض السياسيين قبل الثورة بسنة أو سنتين: "نحن في وضع حرج، والصورة كالتالي: عليك أن تسير بعربتك بسرعة 100 كيلو متر على طريق منحنى حول جبل وهناك هوَّة بالأسفل من الممكن أن تسقط فيها، وكل آمالك معلقة على أن تسعفك العربة في أن تستدير وتفلت بنا من هذا المنعطف، لكننا لا نستطيع السير ببطء، هناك أوضاع اقتصادية لا تسمح بذلك". "والنتيجة أن السيارة سقطت"، يعقِّب "يونس".


إجمالًا، كانت سياسات "السادات" ثم "مبارك" الاقتصادية يمينية واضحة، ما يراه البعض دليلًا يعارض فكرة "يونس" عن أن "دولة يوليو" هي دولة واحدة منذ 1952 إلى 2011، استنادًا على أن طبيعية الدولة تتحدد – ضمن محددات كثيرة – وفق انحيازاتها الطبقية، وبالتالي فإنه – وفق هذه الرؤية – فإن عهد "عبد الناصر" في كفة، و"السادات ومبارك" معًا في كفة أخرى.

لكن "يونس" يصر على أنها دولة واحدة، ثم يسحب نظريته على السياسة الداخلية لنظام قائد ثورة 23 يوليو 1952، ليدفع بأنه "حتى أيام عبد الناصر لم يكن هناك انحياز طبقي محل إجماع من الأساس وسط القوى الحاكمة؛ كذلك الخمسينيات مختلفة عن الستينيات: في الأولى تشجيع القطاع الخاص تحت جناح الدولة، والستينيات اشتراكية، حسب الشعار السائد وقتها، لأسباب سياسية وليست اقتصادية".

"ناصر"، وفق "يونس" الذي يعتبره رجل دولة حقيقي وليس مجرد ناشط سياسي، "كانت تحت يده أوراق عديدة يلعب بها اقتصاديًا، لكنه كلما ضغط على القطاع الخاص كلما توقف عن التعاون مع الدولة، بالتالي الدولة تخسر، أضيف إلى ذلك مخاوف أن تقوم هذه الطبقة بشيء مضاد على غرار ما حدث في انفصال سوريا، لذلك جاء التحول الاشتراكي بعد فشل الوحدة".


ثمَّة تفسير لما حدث بعد وفاة عبد الناصر يقول بأن السبب كان أن المبادئ الاشتراكية لم تتجذر بما فيه الكفاية. يرد "يونس" متخذًا من تجربة "منظمة الشباب الاشتراكي" 1966 مثالًا: "عبد الناصر حاول بناء كوادر بالفعل لكن خطته فشلت، لأن بعض الكوادر كان يتمرد، ليس لأنها ضد الدولة، لكن لأسباب أخرى، مثل أنها تريد "ديمقراطية أكثر"، تريد "خطة تنمية تقشفية أكثر، ولم تكن بنية النظام تحتمل مناقشات من هذا النوع في صميم سياسات الدولة".

إلى جانب ذلك، في رأي "يونس"، كانت هناك اختلافات على المستوى الداخلي للكوادر: "بعضهم كان يميل لليمين، آخرون لليسار وهكذا، لكنهم جميعا كانت لهم مرتكزاتهم داخل الدولة نفسها، مشيرًا إلى أن "عبد الناصر" عندما قرر تغيير قيادات منظمة الشباب، فإن المسئول الجديد أدخل آلاف الأعضاء وأقرّ تلقينات بدائية أو مبسطة، ففشلت التجربة.


اتصالًا بهذه النقطة، تبرز قراءات تشير إلى أن "عبد الناصر" تنبأ – في أواخر عهده - بمشاكل في بنية نظامه. يقرأ مؤلف "الزحف المقدس" هذه الصورة من منظوره كالتالي: "عبد الناصر كان يعرف أن هناك جناحين في النظام: يمين ويسار، غير أنه في حياته كان يسيطر عليهما، يُحجِّم هؤلاء ويُحجِّم هؤلاء، ثم يطبق سياسة أميل الى اليسار".

بالتالي، هل كانت الردة على أفكار "عبد الناصر" أسهل وفق هذا؟ يجيب شريف يونس، فيما بدا أنه توصيف لمشكلة كبيرة في بنية الدولة البيروقراطية: "معظم من عملوا في جهاز الدولة "مجرد موظفين ومنتفعين"، "مع الرايجة"، سواء كانت اشتراكية أم رأسمالية. ويبرهن على هذا بأن "السادات" عندما نفذ "انقلاب قصر" في مايو 1971، ألقى القبض على بضع مئات لا غير، ورفت 19 عضوًا من مجلس الأمة الأخير في عهد "عبد الناصر"، فقط، أما الباقون فرفعوا شعار "معاك يا ريس"، ما يعني أن 99 % من رجال الدولة أيدوا "السادات" دون تردد، لأن "الصراعات كانت بين مجموعتين تعملان داخل الدولة الناصرية نفسها، الناصرية كبنية دولة، لا كشعارات"، بحسب "يونس".


ويعتبر صاحب "نداء الشعب.. تاريخ نقدى للإيديولوجيا الناصرية" أن ما حدث – في مايو 1971 - أن الجناح اليميني أزاح اليساري. غير أن الأخير لم ينمحِ تمامًا، فمن نُحي كانت قياداته لكن أفراده ظلوا موجودين في الأجهزة العميقة للدولة.

ويلفت إلى أنه "دائمًا ما تجد في الدولة جناحًا دولتيًّا، وهو الجناح الذي علت موجته حاليًا". هل هو ما يسمونه "الدولة العميقة"؟ يرد أستاذ التاريخ المعاصر: "أيًّا كان المسمى. هو جناح يؤمن بضرورة الحفاظ على القبضة القوية للدولة، وظل موجودًا أيام "السادات" و"مبارك"، وإلى الآن، لكنه هُمِّش مع صعود يمين النظام، لم يعد يضع السياسات العامة، فقط يتقدم بالمطالب الخاصة بالحفاظ على تماسك الدولة ويتم الاستجابة لبعضها".