السبت 20 أبريل 2024 الموافق 11 شوال 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تقارير

6 أكتوبر بقلم مراسل حربي (4): من رسائل جنوده وذكريات أسرته.. قصة استشهاد مهندس ملحمة العبور

الرئيس نيوز


"لقد قضيت ليلة طويلة متوحدًا أذرف الدمع الحار على مقاتل مصري من هذا النوع الذي يأتيك انطباع عند رؤيته، أنه خُلق ليستشهد، من جرأته، من البطولات الأسطورية التي أتاها، من تأثيره بين رجاله، من طريقته في الحديث التي تجعلك تشعر أنك أمام راهب حرب، متصوف عسكرية.. لو سردت آلاف الصفحات بأكثر الأقلام حدة، وأكثرها موهبة، فلن يصبح هذا إلا بمثابة خدش فوق سطح متعدد الأعماق".

بروح المقاتل وقلم الصحفي، سجّل الكتاب الراحل جمال الغيطاني هذه الكلمات، في السنة الأخيرة من فترة عمله مراسلًا حربيًا على الجبهة، والتي بدأها منذ عام 1968 إلى 1974.

عايش "الغيطاني" الجيش المصري، في تلك الفترة الملحمية التي شهدت الاستعداد لمعركة التحرير، وتفاعل بروحه وشاهد بعيينه ونقل بقلمه عمليات حرب الاستزاف، حتى جاءت اللحظة الكبرى في 6 أكتوبر 1973، عندما عبرنا قناة السويس إلى الضفة الشرقية.

كان الكاتب الراحل أحد أشهر المراسلين الحربيين في تاريخ الصحافة والجيش المصري، وكانت مراسلاته اليومية من الجبهة إلى الشارع عبر صحيفة "الأخبار" مادة أدبية إخبارية رفيعة المستوى لنقل صورة كاملة عن بطولات الجندي المصري في مواجهة العدو الإسرائيلي.

"الرئيس نيوز" يعرض على حلقات متتالية يوميات حرب أكتوبر بقلم "الغيطاني" والتي صدرت حديثًا في كتاب "على خط النار"، الصادر عن دار أخبار اليوم في مناسبة الذكرى 46 لمعركة العبور.

 

*

في 14 أكتوبر 1973، استشهد العميد أركان حرب مهندس أحمد حمدي، وهو بين جنوده يعملون على تركيب أحد الكباري الضرورية فوق قناة السويس، ليتم تخليد اسمه وإطلاقه على النفق الشهير الذي يصل الضفة الغربية بسيناء، بالضبط كما كان يفعل هو في معركة العبور.

جمال الغيطاني كان من أوائل من كتبوا عن بطولة أحمد حمدي، الذي رُقي بعد استشهاده لرتبة لواء، وذلك في جريدة "الأخبار" بتاريخ 17 فبراير 1974، تحت عنوان "القصة الكاملة لبطولة الشهيد حمدي نائب مدير سلاح المهندسين".

يقول: "ظهر السبت، السادس من أكتوبر، اتخذ اللواء أحمد حمدي نائب مدير سلاح المهندسين والمسئول عن إقامة الكباري والمعابر في قطاع الجيش الثالث، اتخذ موقعه في نقطة متقدمة جدا تحاذي الشاطئ الغربي لقناة السويس، لقد خطط طويلا لتلك اللحظات المقبلة، وقرر بينه وبين نفسه أن يتواجد بشخصه في مواقع إقامة الكباري، إن مكانه الطبيعي في موقع قيادته، في مكان أكثر أمنا، لكنه شأن الكثير من ضباطنا تواجدوا وسط جنودهم وتقدموهم".

كان "حمدي" من القادة المحترفين في عملهم، "إنه يعرف كل شبر من هذه الأرض، لقد استطلعها عشرات المرات، درس كل شبر فيها من قبل، حتى يتمكن من التوفيق بين متطلبات القاوت وفنية الأرض، وعلى هذا الأساس اختار أماكن العبور، ومنذ عامين أشرف بنفسه على فتح ثغرات في الساتر الرملي الممتد فوق الضفة الغربية".

كان علاقة أحمد حمدي بجنوده وضباطه خير مثال على عقلاقة القائد الإنسان المعلم، وهنا نجد أحد المقاتلين الذين انتهت مدة خدمتهم مع الشهيد، يكتب له قائلا: "سيادة القائد والأب والمعلم العميد أحمد حمدي.. بعد التحية.. الآن بعد أن انتهت مدة تجنيدي، لا أصدق أن عملي قد أصبح من غير قيادتكم، أن تتوالى الأيام ولا أراكم وقد تعودتها يوميا طيلة عامين، لقد فقدت توازني النفسي بعد خروجي من الخدمة، إنني أؤكد لك أنني – عملا وليس قولا – ما زلت تحت قيادتكم ورهن أمركم، ولي الشرف حقا وليس مجاملة، وأنتم تعلمون صدق قولي، لقد كنت أكثر من أب بالنسبة لنا، وخير معلم لنا.. ابنكم وتلميذكم فتحي أبو ذكري".

كان أحمد حمدي واسع الاطلاع، يقرأ كثيرًا، وينقل "الغيطاني" عن شقيقه التالي: "جاءني أحمد ذات يوم وقال لي إنه وجد كتابا مهما بالإنجليزية عن إدارة الأعمال بسور الأزبكية، طلب مني أن أذهب لأشتريه، حدد مكان البائع، واشتريته فعلا، بعد فترة استعاره مني وها هو الكتاب أمامك في الدولاب يستقر حتى الآن، كان أحمد يخصص جزءا من وقته ليمر على سور الأزبكية يشتري الكتب النادرة في فروع العلم التي تهمه، كانت هوايته ونزهته التجول على سور الأزبكية".

زار جمال الغيطاني منزل الشهيد، والتقى أسرته: أمه وزوجته وشقيقه وأبناءه، ودخل مكتبه ونقل لنا صورة تدل على الثقافة الواسعة التي كان يتمتع بها المهندس العسكري الفذ.

يكتب المراسل الحربي: "الكتب هنا باللغة الإنجليزية والفرنسية والروسية، كتب ومراجع علمية تزحم رفوفا، كتب سياسية، مذكرات تشرشل.. مشاكل الشرق الأوسط.. الشرق الأقصى.. إفريقيا.. أعمدة الحكمة السبعة للورنس.. كتب عسكرية: فولد- جياب- ليدل هارت- كتاب عن روميل- نشأة وسقوط الرايخ الثالث لشيرر- كتاب عن مقاومة الدبابات- المهندسون في الحرب.. روايات أدبية: هيمنجواي- سارتر- كامو- فوكنز.. كتب عن الاقتصاد- عن إدارة الأعمال".

يرصد "الغيطاني" أنه في مواجهة المكتب دولاب ضخم يحوي عددا كبيرا من الملفات، وفوق الجدار هدية من أحد جنود ألوية القوات المسلحة، سكين ذهبية كتب عليها "الصاعقة"، ودروع وميداليات تذكارية أخرى من الكلية الحربية وأكاديمية فرونز العسكرية الروسية.

فوق الجدار المواجه للمكتب، كان "حمدي" يعلق الآية الشريفة التي تقول: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون".

نأتي إلى أم الشهيد، التي شاهدت ابنها لآخر مرة في اليوم الثاني لرمضان، أي قبل 8 أيام من حرب أكتوبر. تحكي لـ"الغيطاني": "قال لي: كل سنة وأنت طيبة، أنا مش حقعد معك كثيرا، قلت له "أنت رايح فين"، ما ردش، كان سلامه حار المرة دي، راح لغاية باب الشقة وأنا قاعدة على الكنبة دي، كل ما أبص ألاقيه واقف، يا ترى في باله كلام عاوز يقوله لي، يرجع لي".

تضيف الأم: "كرر السلام ثلاث مرات، كنت عاوزة الموقف ده ينتهي، قلت له" إن شاء الله إمتى هتحاربوا اليهود؟ قال: بإذن الله. كنت عاوزة أجر معاه في كلام، سلم عليّ مرة ثالثة، قال لي: مع السلامة يا ماما.. وخرج".

كيف اٌستشهد أحمد حمدي؟ ينقل "الغيطاني" عن قائد معدات المهندسين بالجيش الثالث ما حدث: "وقعت غارة على أحد المعابر، دفعت من عندي بعض المختصين، وعندما وصلوا وجدوا اللواء أحمد كان قد انتقل إلى مكان الكوبري نفسه، وقف بنفسه فوق الكوبري أثناء عملية الإصلاح. كان العدو يضرب طلقات فردية فوق الكوبري وحوله تجمع عدد كبير من الجنود المختصين بالإصلاح، مستمرين في أعمالهم غير عابئين بغارات العدو الجوية ولا طلقات مدفعيته التي يحاول بها تدمير الكباري وفجأة، وبينما الشهيد يقف بين عشرات الجنود والضباط سقطت دانة في الماء، لكن الشظية الملتهبة تلسك طريقها إلى جسده، إليه هو، لم يصب غيره، وانطفأ بريق واحد من أغلى أبناء مصر".