الأربعاء 24 أبريل 2024 الموافق 15 شوال 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تقارير

6 أكتوبر بقلم مراسل حربي (1): "ذخيرتي نفدت.. أتمنى لو أن جسمي طلقة مدفع"

الرئيس نيوز

"لقد قضيت ليلة طويلة متوحدًا أذرف الدمع الحار على مقاتل مصري من هذا النوع الذي يأتيك انطباع عند رؤيته، أنه خُلق ليستشهد، من جرأته، من البطولات الأسطورية التي أتاها، من تأثيره بين رجاله، من طريقته في الحديث التي تجعلك تشعر أنك أمام راهب حرب، متصوف عسكرية.. لو سردت آلاف الصفحات بأكثر الأقلام حدة، وأكثرها موهبة، فلن يصبح هذا إلا بمثابة خدش فوق سطح متعدد الأعماق".

بروح المقاتل وقلم الصحفي، سجّل الكتاب الراحل جمال الغيطاني هذه الكلمات، في السنة الأخيرة من فترة عمله مراسلًا حربيًا على الجبهة، والتي بدأها منذ عام 1968 إلى 1974.

عايش "الغيطاني" الجيش المصري، في تلك الفترة الملحمية التي شهدت الاستعداد لمعركة التحرير، وتفاعل بروحه وشاهد بعيينه ونقل بقلمه عمليات حرب الاستزاف، حتى جاءت اللحظة الكبرى في 6 أكتوبر 1973، عندما عبرنا قناة السويس إلى الضفة الشرقية.

كان الغيطاني أحد أشهر المراسلين الحربيين في تاريخ الصحافة والجيش المصري، وكانت مراسلاته اليومية من الجبهة إلى الشارع عبر صحيفة "الأخبار" مادة أدبية إخبارية رفيعة المستوى لنقل صورة كاملة عن بطولات الجندي المصري في مواجهة العدو الإسرائيلي.

"الرئيس نيوز" يعرض على حلقات متتالية يوميات حرب أكتوبر بقلم "الغيطاني" والتي صدرت حديثًا في كتاب "على خط النار"، الصادر عن دار أخبار اليوم في مناسبة الذكرى 46 لمعركة العبور.

*

عبَرت قوات الجيش المصري إلى الضفة الشرقية لقناة السويس، المقاتلون الآن فوق أرض الوطن في سيناء، مرت على الحرب 8 أيام، ونحن الآن في يوم 14 أكتوبر.

يسجل "الغيطاني" لحظة استعادة وسيطرة الجيش المصري على موقع احتله العدو فيكتب: "تتجه أنظار المقاتلين إلى الشرق، حيث يبدو الموقع الإسرائيلي وكأنه جبل صغير فوق الأرض، كل مقاتل ينظر في شراسة بالضبط كشراسة القتال الذي دار بين جنودنا والعدو المحتمي خلف هذه الجدران الصلبة".

ثم يتحدث عن نموذج شهير للجندي في القوات المسلحة، إنه ذلك العسكري الصعيدي، صاحب الروح الخاصة في القتال: "أحد المقاتلين من أبناء صعيد مصر، بعد أعوام طويلة أضمر فيها الثأر، اندفع يهاجم هذا الموقع. كانت المقاومة عنيدة وقاسية، كانت التحصينات القوية تساعد العدو على التمركز خلفها والبقاء أطول وقت ممكن. أمسك المقاتل الأسمر قنبلة بيده، صاح تحت وابل الرصاص:

-    أنا جاي لك..

اندفع في مدخل الفندق، رمى القنبلة في اتجاه أحد المزاغل التي كانت تطلق النيران على زملائه واستشهد المقاتل بعد أن أسكت أحد مواقع العدو".

في المقابل، كانت بطولات القادة لا تقل عن بطولات جنودهم. يكتب "الغيطاني": "أحد القادة، عندما بدأ الهجوم اندفع إلى الأمام شاهرا سلاحه..

-    اتبعوني..

هكذا صاح، كما يصيح كل ضباطنا اليوم في الجبهة إذ يتقدمون الهجوم لو أصيب أحد جنوده، يحمله فوق كتفه بنفسه، ويذهب إلى نقطة الإسعاف، كان هذا القائد الشاب إذا علم أن جنديا من جنوده جرح أو أصيب إصابة طفيفة، يضم قبضته، يضرب الحجر بحنق. ويوجه سلاحه إلى نقطة العدو".

كان الجندي المصري صاحب روح قتالية عالية، لا يريد أن يتوقف، برغم الظروف الصعبة التي خاض    فيها الحرب. ينقل الغيطاني عن أحد المقاتلين قوله: "إنني مستعد للاشتباك معهم ليلا ونهارا.. ولقد نفدت ذخيرتي وأتمنى لو أن جسمي طلقة يوجهها زملائي من خلال مدفع".

تسلّم المصريون الموقع، استعادوا أرضهم بعد انتظار 6 سنوات صعبة، وبدلا من مشهد الأسرى المصريين في نكسة 1967 كان على الإسرائيليين أن يعيشوا ذلك المشهد المرير.

يصف المراسل الحربي مشهد أسرى الجيش الإسرائيلي بلغة رفيعة فيقول: "الأسرى سبعة وثلاثون فردا.. منكسو الرءوس.. عيونهم زائغة.. ممزقو الثياب.. ملامحهم غريبة، خليط متناقض، منهم القادم من أمريكا وبولندا، وأوروبا، وجنوب أفريقيا، خليط كالعصابة، كأنهم قطيع أغنام، يتلاصقون بجوار بعضهم، يطلبون في شراهة الماء، والسجائر، وتُقدم إليهم السجائر والمياه، وهنا تتجسد صورتان متناقضتان تماما، حضارة عمرها سبعة آلا سنة تدافع عن نفسها ضد مجموعة من الشراذم".

ثم يواصل في تأمل: "هذا جيش مهزوم، تحطم أسطورة، هذه النفاية الآدمية التي يبالغ كل واحد فيها في إظهار آيات الذلة والمسكنة بعينيه وعلى تعابير وجهه هي الجيش الذي لا يقهر!! مصورو الصحافة العالمية يلتقطون الصور للأسرى.. وتسري حركة بين المقاتلين".

جاءت اللحظة المميزة في الحرب، ذلك المشهد الذي يُنكس فيه علم العدو ويرفرف علم الوطن فوق أرضه. يصف "الغيطاني" لحظة احتفال المقاتلين المصريين باستعادة الموقع قائلا: "الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. تحيا مصر.. تحيا مصر.. تحيا مصر. يرفع قائد التشكيل يده بالتحية العسكرية، الحناجر لا تهدأ، الله أكبر، تحيا مصر، تبادلوا العناق، الوطن كله هنا فوق الموقع الذي حُرر، دباباتنا من هنا تبدو مندفعة في اتجاه الشرق، تدفع الممرات بعد أن حُررت".

ثم يواصل هوايته الأثيرة في تأمل المشاهد فيكتب: "لحظة رفع العلم فوق المواقع، تتجاوز كل شيء، تصل الحلم بالواقع، تقصي الخوف وهدير الطائرات والانفجارات وخطة الموت، وفداحة الثمن، وليالي القتال.. الحناجر ترد، والصوت لم يهدأ.. الهو أكبر.. الله أكبر، تحيا مصر، تحيا مصر، ثم تتوحد الأصوات في نشيد جماعي مهيب، الأسرى كالجرذان يرتجفون، النشيد يعلو.. بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي.. بينما يخفق العلم راسخا صلبا.. وكانت الساعة، تمام الواحد والنصف من ظهر اليوم السابع لحرب التحرير".

بعد يومين، أي في 16 أكتوبر، ينقل "الغيطاني" تفاصيل المعركة التي لم تتوقف: "عند أول ضوء، انطلقت آلاف القذائف في قصف عنيف مروع وضار ضد مواقع العدو، في نفس الوقت تحركت قواتنا المدرعة متقدمة في إطار خطة هجوم شامل على امتداد الجبهة كلها. إن مقاتلينا وهم يتقدمون في حربنا التحريرية، يواجهون العدو ويخوضون ضده قتالا شرسا، تطاحنا رهيبا، يبدو هذا من دوي الانفجارات التي تتردد طوال النهار والليل، انفجارات دانات المدفعية، الطيران، الدبابات، كافة أنواع الأسلحة، وبعد بدء الهجوم الشامل أمس، يمكن القول أن المرحلة الثانية من حرب التحرير قد بدأت".

كانت معارك صعبة بالفعل، يدل على هذا ما ينقله المراسل المقاتل: "لقد أقام العدو خط دفاعه الثاني مستندا إلى مجموعة من العوامل، اهمها وعورة الأرض، وصعوبة المنطقة التي تتخللها الممرات، والتي تنبسط بعدها صحراء سيناء، وهذا ما استهدفه الهجوم العظيم الذي بدأ أمس من فوق إحدى نقاط الملاحظة المرتفعة، في أحد المواقع بالقطاع الجنوبي فوق أرض سيناء، إلى الشرق تمتد الصحراء المجدبة الوعرة، مسرح عمليات قواتنا المسلحة بعد عبورها القناة".

لكن نفس المقاتل المصري لا ينقطع، يكتب "الغيطاني": "كانت القوات تتدفق وتتجمع وتعيد تشكيل أوضاعها القتالية بعد أن صدت على امتداد أسبوع كامل، ودمرت للعدو عددا كبيرا من المدرعات، وأسقطت له عددا كبيرا من الطائرات، محققة بذلك المبدأ العسكري القائل، إنه من المهم التركيز على تدمير قوات العدو، كأهم عامل لا بد من تحقيقه في البداية، ثم تأتي عملية احتلال الأراضي بعد ذلك، إن هذا المبدأ يتخذ أهمية خاصة وأساسية في حرب الصحراء، حيث لا قيمة لاكتساب الأرض ما دامت قوات العدو سليمة".

إن الجيش المصري لا يكاد يمهل العدو الإسرائيلي كي يلتقط أنفاسه، فيعاجله بالضربة تلو الأخرى، بعد أن كبده خسائر هائلة في الأسبوع الأول من الحرب: "ألوية بأكملها دمرت، أعداد هائلة من الأسرى تساقطوا بين أيدي قواتنا، نسبة القتلى بين جنود العدو مرتفعة جدا، وبشكل يفوق أي تقديرات، أو حسابات".

وكما كتب "الغيطاني"، فإنه "في كل يوم تتآكل أجزاء جديدة من قوات العدو، بينما يزداد رجالنا صلابة وإصرارا على التقدم إلى الشرق".

وسط كل هذا يقول أحد المقاتلين: "نتمنى أن تطول الحرب حتى تطول فرحتنا". عبارة بسيطة من جندي مصري تقول الكثير عن الفرحة باستعادة الأرض.. استعادة الشرف.