الجمعة 26 أبريل 2024 الموافق 17 شوال 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تقارير

"جمهورية الضحك الأولى" (3): السادات.. تنكيت لاذع على ممثل ضلَّ طريقه إلى الرئاسة

غلاف كتاب جمهورية
غلاف كتاب جمهورية الضحك الأولى ـ الرئيس الراحل أنور السادات


"المصريون شعب ابن نُكتة".. لا تبدو هذه العبارة كأثر شعبي جاف داسه الزمن بالتغيرات المتتالية، لكنها دليل حي، عمره من عمر المصريين أنفسهم، على روح الفكاهة لدى شعب وادي النيل، هذا الشعب الذي سجل في كتاب "الموتى" الفرعوني القديم حكمة بليغة تقول: "لا تحزن وأنت على قيد الحياة".

لماذا يقول المصريون النكتة؟ وكيف يقولونها؟ وعلى من؟ وفي أي ظروف؟.. كل هذه الأسئلة التي تبدو جديرة بالدراسة يقدم لها إجابات ويربطها ببعضها البعض كتاب "جمهورية الضحك الأولى.. سيرة التنكيت السياسي في مصر"، لطايع الديب، الصادر عن دار "بتانة" 2019، الذي يعرضه "الرئيس نيوز" على حلقات متتالية.

الكتاب الذي يمكن وصفه – عكس موضوعه - بـ"الجاد"، يستعرض هذا الولع المصري بالنكتة، عبر ثلاث عصور للنكتة السياسية في العصر الجمهوري، خلال فترات الرؤساء جمال عبد الناصر ومحمد أنور السادات ومحمد حسني مبارك، ثم يُتبع ذلك بدراسات جادة وقيمة للنكتة المصرية، مع التطرق لصداها عند العرب، مستعينًا بمصادر عديدة ومتنوعة في التاريخ والسياسة والأدب والسير الذاتية وعلم النفس، مع استهلالات ذكية ولافتة لكل فصل.

**

عندما كان أحد الوجوه "البيروقراطية" لنظام جمال عبد الناصر في الخمسينيات والستينيات، لم يعر المصريون أنور السادات انتباها كثيرًا، لكن منذ اللحظة الأولى التي سمعوا فيها أنه سيصبح رئيسًا خلفًا للرجل الذي عينه نائبًا قبل أن يرحل بأشهر، انهالوا عليه بالنكت حتى آخر سنواته في الحكم.

يروي طايع الديب هذه النكتة الذكية والمبكرة على سبيل المثال: "قبل ساعات من تشييع جنازة عبد الناصر، خريف 1970، كان الجثمان مسجى في بيته بـ"منشية البكري"، وقد اجتمع حوله السادات ومحمد فوزي وعلي صبري وسامي شرف وحسنين هيكل وحسين الشافعي. وفتح أحدهم شباك الغرفة المطلة على حديقة البيت، فدخلت نسمة هواء خريفية لطيفة، فقال الشافعي لأحدهم: "ياااااه... شوية هوا يردوا الروح يا أخي"، فأسرع السادات وأغلق الشباك".

ويعود مؤلف "جمهورية الضحك الأولى" إلى مذكرات نجيب محفوظ التي سجلها على لسانه رجاء النقاش، لرصد كيف كانت مفاجأة الناس برئاسة السادات: "كنت في بيتي عندما أُعلن عن تولي السادات مسؤولية الحكم بعد عبد الناصر، وضربت كفاً بكف، وأنا غير مصدق، وقلت لزوجتي: هذا (الأضحوكة) هل سيصبح رئيسًا لمصر؟".

رغم ذلك فإن الرجل بدا أنه لم يكن بالسطحية التي تصوروها عنه، إذ كشفت سنوات حكمه عن شخصيته الدرامية، وكمونه السياسي في عهد "عبد الناصر"، وقفزته على الجميع عندما آلت له الأمور.

من ذلك مثلاً، هذه النكتة التي قيلت من وحي أول اختبار ساداتي لأسلوب "الصدمات الكهربائية" عندما اعتقل عدداً من المسئولين في عهد "عبد الناصر"، أطاح بهم في ضربة واحدة سمّاها "ثورة التصحيح".

تقول النكتة: "في أعقاب أحداث 15 مايو 1971، أودع السادات بعضاً من رجال عبد الناصر في السجون التي بنوها بأنفسهم، ضمن قضية "مراكز القوى"، واستقبل أحد المعتقلات دفعة جديدة من النزلاء منهم، متهمون في هذه القضية، وأخذ حكمدار الحبس (وهو أقدم سجين) يعرِّف الموجودين على بعضهم، قال الرجل عن أول نزيل: ده مسجون قديم، اتسجن عشان عارض علي صبري.

ثم قدّم الرجل الثاني: وده مسجون مستجد، لأنه أيد علي صبري. وجاء دور الثالث فقال: وده بقى علي صبري!".

تلك النقطة التي تربط نظامين متتالين، تقودنا مع المؤلف إلى تحليل لافت وطريف للدبلوماسي المحنك بطرس غالي، الذي كان يرى أن "عبد الناصر، مثل قيصر، يفضل أن يكون الأول والأعلى رتبة والأكبر مرتبة في قريته، أي في العالم الثالث، أما السادات فهو يقبل أن يكون الثاني في روما، أي في عاصمة من عواصم الدول العظمى".

ولأن الراغب في فهم شخصية الرئيس الراحل أكثر، عليه أن يعود إلى ما قبل ثورة يوليو، فإن "الديب" ينقل عن الكاتب الفرنسي من أصل مصري روبير سوليه في كتابه الشهير "السادات"، كيف كان ابن المنوفية يحلم بالمجد السينمائي.

يقول سوليه: "في يوم ما من الأربعينيات، نشرت المنتجة السينمائية أمينة محمد إعلانا لتوظيف ممثلين جدد من طائفة الكومبارس، وسرعان ما كاتبها السادات قائلا لها: (أنا شاب ممشوق القوام، متين البنية، جميل الملامح، لست أبيض لكني لست أسود كذلك، بل إن سواد بشرتي هو أقرب إلى الحُمرة)، وكم كانت خيبته حين لم يتم اختياره".

ويضيف مؤلف "جمهورية الضحك الأولى" أن السادات بعد فشله في الالتحاق بأي عمل سينمائي قرر أن "يمثل مع نفسه"، بغرض اللهو، فأطلق لحيته وتدروش وأعطى لنفسه لقب "الحاج"، وينقل عنه اعترافه هذا الذي نُشر في جريدة الجمهورية، 28 نوفمبر 1955: "لكني سرعان ما مللت ذلك، بعدما لم يكترث بي أحد".

ويتوقف المؤلف عند عبد الحميد كشك، الخطيب الإسلامي ذائع الصيت والانتشار في النصف الثاني من السبعينيات، وكيف كان يتجرأ بالانتقاد على الجميع، بمن فيهم السادات.

أمطر "أسد المنابر" - الذي يشبهه المؤلف بعبد الله النديم كـ"داعية شعبي متحدر من الأدبيات الدينية للثورة" - رئيس الجمهورية آنذاك بالنكت والتشنيع والسخرية السياسية، وكان شرائط الكاسيت المسجلة عليها خطبه مثل السلع الأساسية في مصر آنذاك، بخلاف أنها كانت تُهرب إلى الخارج.

لكن تركيز الكاتب على - أو الإعجاب بـ - الدور الساخر لـ"الشيخ كشك"، بدا أنه خانه التوفيق أو نقصه التوضيح، عندما نقل انتقاده لافتتاحية السادات لخطبه "باسم الله.. باسم الشعب"، والتي هجاها الرجل بمفهوم ديني متشدد لا يقر بمدنية الدولة، قائلا: "أكمل البسملة يا سادات، أنقصك الله".

ويروي المؤلف ما حكاه له المونولجست الراحل حمادة سلطان، الذي كانت تستدعيه مؤسسة الرئاسة أيام السادات في استراحة القناطر الخيرية ليحكي للرئيس آخر إنتاج النكت السياسية، التي تسخر منه أو من مسؤوليه.

ويسجل "الديب" تلك المقولة اللاذعة التي نقلها لسلطان للسادات بعد إلحاح، وهي "أقرع بزبيبة.. ومراته كسيبة"، وهي مقولة شعبية شديدة الهجاء، طالت زوجة السادات، التي كانت قد دخلت المعترك العام آنذاك، وتمرغت في نعيم لقب "السيدة الأولى"، والتي "صار لها نفوذ سياسي ونشاطات خيرية واسعة النطاق، ومشاريع خاصة بها، بأسماء آخرين".

ويعرج طايع الديب بذكاء على تحليل التصرفات الشخصية للرئيس السادات، في أواخر حكمه، وكيف أصبحت في حد ذاتها نكتة.

يقول: "بلغ ولع السادات بنفسه ذروته في فبراير 1980، حين نشرت صحف ومجلات منها "أخبار اليوم و"آخر ساعة" و"المصور"، وغيرها، في الصفحات الأول للجرائد، وعلى صدر أغلفة المجلات – صوراً غريبة للرئيس المصري على الطريقة الأمريكية، واقفاً بالملابس الداخلية وهو يحلق ذقنه مبتسماً لنفسه في مرآة الحمام، وعلى وجهه معجون الحلاقة، ثم وهو يمارس اليوجا، رياضة الحكماء الذهنية، أو يلعب رياضة خفيفة رغم جسده النحيل الهضيم وعظامه البارزة، فبدا أشبه بمومياء فرعونية بشعة".

ويشير المؤلف إلى أن السادات كان قد تحول إلى شخص آخر تماماً، لافتًا إلى أنه حتى "أخلاق القرية" التي كان يدعو إليها في كل مناسبة لم تكن لتسمح له بأن يخرج على الناس هكذا.

وفي تحليل معتبر، يطرح روبير سوليه، كيف يمكننا أن نفهم "البايب" الشهير للرئيس الراحل: "إن السادات الذي كره البريطانيين في حداثته، بدأ يشبههم أكثر فأكثر عندما تقدم في السن والمكانة، إن البايب الذي لم يعد يفارق فمه أبداً، قد يوحي بغليون المصالحة والسلام الذي كان يدخنه الهنود الحمر، لكنه يبعث أيضاً صورة نوادي الأرستقراطيين الإنجليز القدامى، حتى لو أكد مطلقو النكت أن البايب كان محشوّاً على الدوام بمخدر الحشيش، فقد كان يعطي الانطباع بأنه يحتقر الزعماء العرب الآخرين المرتبطين بهذا الشرق الرجعي".