الثلاثاء 23 أبريل 2024 الموافق 14 شوال 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تقارير

جمهورية الضحك الأولى (1): 7 آلاف سنة حضارة و"نُكت".. كيف يداوي المصريون جروحهم بالسخرية؟

الرئيس نيوز


"المصريون شعب ابن نُكتة".. لا تبدو هذه العبارة كأثر شعبي جاف داسه الزمن بالتغيرات المتتالية، لكنها دليل حي، عمره من عمر المصريين أنفسهم، على روح الفكاهة لدى شعب وادي النيل.

لماذا يقول المصريون النكتة؟ وكيف يقولونها؟ وعلى من؟ وفي أي ظروف؟ كل هذه الأسئلة التي تبدو جديرة بالدراسة يقدم لها إجابات ويربطها ببعضها البعض كتاب "جمهورية الضحك الأولى.. سيرة التنكيت السياسي في مصر"، لطايع الديب، الصادر عن دار "بتانة" 2019، الذي يعرضه "الرئيس نيوز" على حلقات متتالية.

الكتاب الذي يمكن وصفه – عكس موضوعه - بـ"الجاد"، يستعرض هذا الولع المصري بالنكتة، عبر ثلاث عصور للنكتة السياسية في العصر الجمهوري، خلال فترات الرؤساء جمال عبد الناصر ومحمد أنور السادات ومحمد حسني مبارك، ثم يُتبع ذلك بدراسات جادة وقيمة للنكتة المصرية، مع التطرق لصداها عند العرب، مستعينًا بمصادر عديدة ومتنوعة في التاريخ والسياسة والأدب والسير الذاتية وعلم النفس، مع استهلالات ذكية ولافتة لكل فصل.

 

على عكس ترتيب الكتاب، سنبدأ بالفصل الرابع، وهو الذي يقدم فيه طايع الديب تأريخًا للنكتة المصرية وتفسيرًا لدوافعها، ويضع على رأسه بيت "المتنبي" العابر للأزمنة: "وكم ذا بمصر من المضحكات.. ولكنه ضحك كالبُكا"!

في أول الفصل، نقرأ هذه النكتة "الحضارية" إن جاز التعبير: "التحق كاتب مستجد بالعمل في خدمة كاهن بمعبد "تحوت"، علما أن المعابد الفرعونية كانت بمثابة مؤسسات مكتملة تضم كل الصنيعية والحرفيين. وانزعج الكاتب بسبب الضجة المنبعثة من غرفتي جاريه: النجار والحداد، وليس أسوأ من جيرة واحد يدق وآخر يطرق، ليل نهار.

وأخبر صاحبنا الكاتب سيده الكاهن بذلك، فأعطاه مالا، وقال له: قدمه لهما مناصفة، وقل لهما أن يجدا مكانا آخر للسكنى. وقد كان، أخذ الحداد وزميله النجار المال من الشاب، وفي اليوم التالي انتقل كل منهما إلى غرفة الآخر".

يعقّب "الديب"، على عهدة الأثريين، أن هذه هي ثاني نكتة في التاريخ، بعد نكتة سومرية تعود إلى سنة 1900 قبل الميلاد، والأخيرة وُجدت مكتوبة على جدران أحد الحمامات العامة بموقع أثري جنوب العراق.

أما "النكتة الفرعونية المدونة سنة 1600 ق. م سجلتها جدران معابد الأقصر، وبها يكون المصريون هم ثاني شعب في العالم تداول النكت"، ثم يضيف في إشارة ذكية: "بل إنهم – فوق ذلك – سجلوها على جدران معابدهم المقدسة، وليس في الحمامات العامة، دليلا على التقدير".

لكن النكتة عند المصريين القدماء لم تكن شفهية فقط، إذ أنه بالإمكان قراءتها من الواقع الاتجتماعي للأجداد: "من أعظم آيات السخرية السياسية في العصر الفرعوني، نقش بارز يكاد يصف حال المصريين المستضعفين في الأرض على مر العصور، وهو عبارة عن صورة لراعٍ بائس وهزيل كأنه هيكل عظم متحرك، يجر خلفه بحبل ممدود بقرة سمينة بشكل مبالغ فيه، في حجم سيد قشطة، يوشك ضرعها الهائل – من فرط امتلائه باللبن المتروك بلا حلب – أن يلمس الأرض".

3600 سنة هو تاريخ النكتة المصرية إذن، وهو تاريخ طويل جعلها قبلة اهتمام المخابرات العالمية، كما يشير "الديب"، ثم ينقل عن العسكري اللبناني المتقاعد، هشام جابر: "خلال عام 1979، كنت في الولايات المتحدة، أتابع دراسات الحرب النفسية بكلية الأركان في قاعدة (فورت براج) العسكرية بولاية كارولينا الشمالية. وقد درجت العادة في نهاية الدورة الدراسية أن يقدم الطالب دراسة عملية للقيام بعمليات نفسية، أو حرب نفسية، في بلد يختاره وتوافق عليه إدارة الكلية، أو تختاره هذه الإدارة بالتوافق معه إذا اقتضت الضرورة (...) وشاءت الصدف أن تكون مصر إحدى (الدول الهدف)، ونظام السادات في حينه اعتبره الأمريكيون نظاما حليفا، فكان هذا أحد المواضيع المطلوبة للقيام بعمليات نفسية، لدعم النظام المصري وإضعاف خصومه. ولم أفاجأ بأن القيمين على الدراسة أعطوا النكتة في مصر مكانا متقدما – في العمليات النفسية – على الشائعة وبعض الوسائل الأخرى، معتبرين أن النكتة في بلد كمصر تنتشر بسرعة البرق".

وعلى غرار التفسير الشعري الذي كتبه المتنبي في القرن العاشر الميلادي "وكم ذا بمصر من المضحكات.. ولكنه ضحك كالبكا"، ينقل المؤلف رأي أستاذ علم النفس، الدكتور شحاتة ربيع: "الناظر غير الخبير قد يرى تناقضا بين الحزن والفكاهة لدى المصريين، غير أن دراسة النكتة السياسية على وجه الخصوص، تبين أن هذه النكات رغم قوة تأثيرها في إضحاك المستمع، فهي تدلنا على أن شدة الألم والحزن الذي يشعر به المصري في فترات الشدائد هي سر إطلاق النكت القوية، ويؤيد ذلك أيضا قلة تداول النكات في فترات الرخاء".

عالم الاجتماع الفذ الراحل، الدكتور سيد عويس، لديه تفسير لسبب شيوع النكتة على ألسنة المصريين، يقول: "إن النكتة السياسية السرية تعبير عن رأي عام في بعض القضايا، يلجأ إليه الناس إذا ما سدت في وجوههم منافذ التعبير الأخرى، أي عندما لا تتوافر لهم أساليب تفريغ الشحنات العدوانية الناتجة عن قسوة العيشة، أو عن شدة الكبت السياسي".

ومن الشائع أن النكتة تلمع إذا ارتبطت بتعاطي "الحشيش"، ذلك المخدر الشعبي واسع الانتشار خصوصا وسط الطبقات الفقيرة. وبحسب الأكاديمي الفرنسي من أصل مصري، سامي علي، فإن الحشاش في مصر صانع نكتة من الطراز الأول، بل إنه يعتبر فكاهته التائهة في عوالم الحشيش بمثابة "تنكيت باسم الشعب".

ويشرح "علي" أن النكت السياسية التي تخرج من أفواه الحشاشين "تبدو في سياق التاريخ المصري الحديث، وكأنها محاولات لحل صراع بين المعدمين والسلطة التي تتجسد في الحاكم، وهو صراع يتمثل في موقفين على طرفي نقيض: خضوع يضفي على الهرم الاجتماعي معنى قدريا لا سبيل لرده، او تمردا واعيا ببطلان أي نظام سياسي أصله الظلم".

ويواصل "علي" أن النكت السياسية التي تخرج من أفواه الحشاشين "تبدو في سياق التاريخ المصري الحديث، وكأنها محاولات لحل صراع بين المعدمين والسلطة التي تتجسد في الحاكم، وهو صراع يتمثل في موقفين على طرفي نقيض: خضوع يضفي على الهرم الاجتماعي معنى قدريا لا سبيل لرده، او تمردا واعيا ببطلان أي نظام سياسي أصله الظلم".

اجتماعيًا، ومن منظور أوسع قليلا، فإن النكتة ببساطة هي سلاح البؤساء والمعدمين لاحتمال العيش الصعب. ويستشهد طايع الديب هنا بما ذكره الكاتب الرائد أحمد أمين في كتابه "قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية"، عن مصر الأربعينيات: أشد الناس بؤسا وأسوأهم عيشة وأخلاهم يدا، هم أكثر الناس نكتة. ففي القهاوي البلدية، حيث يجلس الصناع والعمال ومن لا صنعة لهم ولا عمل، وفي المجتمعات الشعبية حيث يجتمع الفقراء والبؤساء، نجد النكتة بينهم تحل محلا ممتازا".

ثم يلفت إلى نقطة مهمة إلى مكانة الفكاهي في تلك الأوساط قائلاً: "تجد ابن النكتة محبوبا مقدّرا، يُفتقد إذا غاب، ويُبجّل إذا حضر"، ثم يكثّف: "كأن الطبيعة التي تداوي نفسها بنفسها، رأت البؤس داءً، فعالجته بالنكتة دواء".