الجمعة 19 أبريل 2024 الموافق 10 شوال 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تقارير

"سنوات النار والثلج" (5): طالباني لـ"عبدالناصر": إنهم "يخافون منك" يا سيادة الرئيس

الرئيس نيوز

ترأس وفد الأكراد للتفاوض مع الحكومة وهو في الثلاثين.. وأقنع الزعيم بـ"الحكم الذاتي" في احتفالات "عيد الوحدة"

"ناصر" سأل العراقيين: لماذا قتلتم عبد الكريم قاسم؟.. و"بن بلة" نصحهم: امنحوا الأكراد حقهم قبل فوات الأوان

مشروع لم يكتمل لرجل دين وهو طفل، مقاتل يحمل السلاح ويعيش في الجبال، سياسي مخضرم يصبح أول رئيس جمهورية كردي للعراق؛ هكذا عاش الرئيس الراحل جلال طالباني حياة حافلة بين "النار والثلج"، يمكننا أن نتعرف منها، إلى جانب سيرته الذاتية الثرية، على تاريخ العراق والعالم العربي في أكثر من نصف قرن.

كتاب "مذكرات جلال طالباني.. سنوات النار والثلج"، لمعد فياض، يقترب للغاية من الزعيم السياسي الكردي، في مهمة شاقة وثرية، عايش فيها محرر المذكرات الرئيس الذي يتمتع بالحيوية واليقظة، في أكثر من مدينة، وأنتج لنا العمل الصادر قبل سنتين عن دار "سطور" في بغداد.

ولا يخفي المؤلف إعجابه الشديد بشخصية "طالباني"، بل إن هذا هو ما دفعه لتحرير مذكراته التي يجدها مهمة شاقة، إذ "كيف يمكن لنا أن نلملم أطراف ذكريات رجل بدأ ينسج تاريخه الاجتماعي والثقافي والسياسي وهو في العاشرة من عمر طفولته".

"الرئيس نيوز" يعرض على حلقات مذكرات أول رئيس كردي في تاريخ الدولة العراقية، وسابع رئيس عراقي، ذلك الرجل الذي رفع شعار "الحرية لكردستان، والديمقراطية للعراقيين".

بعد عمليات قصف ومناوشات وحرب عصابات بين حكومة عبد الكريم قاسم وبين الأكراد، أُطيح برئيس الحكومة في عام 1963 بعد اتفاق "البعثيين" مع عبد السلام عارف، الذي كان رفيقا لقاسم في أحداث الثورة على الملكية، لكنه استعبده وفرض عليه الرقابة الجبرية.

جاء عبد السلام عارف إلى السلطة، لكنه كان يرد أن يلتقط أنفاسه ويؤجل على الأقل مشكلة الأكراد، فطلب عقد هدنة معهم، وكان جلال طالباني، صاحب الثلاثين سنة، رئيسا لوفد الأكراد، الذي كان يضم في عضويته "وزيرين" كرديين.

ذهب "طالباني" إلى بغداد للتفاوض بتكليف من مصطفى برزاني والمكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني. وهناك سأله ممثلو الحكومة: ماذا تريدون؟ فكرر مطلبهم القديم: نريد الحكم الذاتي.

لكنه هذه المرة سمع ردًا أهدأ من وزير الدفاع صالح مهدي عماش: "نوافق من حيث المبدأ، لكننا نريد مهلة من الوقت"، غير أن رئيس الوزراء أحمد حسن البكر أشار إلى شيء مهم: "نحن نخاف من الرئيس جمال عبدالناصر، ربما سيقول إننا سنجزئ العراق ونقسم الوطن العربي إذا أعطيناكم الحكم الذاتي".

هذه الإشارة فتحت الطريق أمام جلال طالباني لمقابلة الزعيم العربي الأوحد في تلك الفترة، والأمر جاء باقتراح من الحكومة العراقية، بأن يسافر "طالباني" وفؤاد عارف، ممثلين عن الأكراد، مع الوفد العراقي الذي كان يستعد للسفر إلى القاهرة للمشاركة في الاحتفال بعيد الوحدة المصرية السورية، في 22 فبراير 1963.

كان اقتراح سفير الثنائي الكردي "خطأ كبيرا" للحكومة العراقية التي أرادت في الأساس إحداث عداء بين "عبدالناصر" وبين "طالباني"، إذ اعتقد البعثيون أن زعيم القومية العربية لن يوافق على مبدأ الحكم الذاتي.

لكن ما حدث كان عكس التوقعات. في القاهرة استقبل جمال عبد الناصر الوفد العراقي ككل، لكن "طالباني" طلب مقابلة خاصة معه كأكراد فوافق.

كان "طالباني" في تلك المقابلة يرتدي الزي الكردي، لكن هذا لم يكن مقصودا. يحكي: "كنت قد جئت من السليمانية بملابسي ولم يتح لي الوقت في بغداد لأن أخيط بدلة اعتيادية".

عندما قدم عبد الرحمن البزاز، السياسي والحقوقي العراقي، وسفير بغداد لدى القاهرة آنذاك؛ جلال طالباني لـ"عبد الناصر"، قال ممازحا إياه: "سيادة الرئيس أرجو ألا تنخدع بهذه الملابس، ذلك أن جلال طالباني محامٍ، وكان من تلامذتي في كلية الحقوق".

 في الحوار الذي دار بين عبد الناصر والوفد الكردي نجد تفاصيل مهمة تكشف طريقة تفكير "عبد الناصر". في البداية يكشف "طالباني" أن "عبد الناصر" أكد لوفد الحكومة العراقية أنه تألم لمقتل عبد الكريم قاسم الذي اعتبره قائد ثورة، وقال لهم: "كان يجب أن ترسلوه إلينا هنا في القاهرة بدلا من قتله".

لكن لنركز هنا مع لقائه مع وفد الأكراد الصغير، يقول جلال طالباني: "أبلغناه تحيات ملا مصطفى بارزاني والمكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني، وقلنا له إننا لا نريد الانفصال عن العراق، ولسنا ضد القومية العربية، بل نحن نؤيد حركة القومية العربية برئاستكم".

في المقابل، أكد "طالباني" لجمال عبد الناصر أن الأكراد لم يقفوا ضد الجمهورية العربية المتحدة، في عهد عبد الكريم قاسم، متمنيا منه أن يتدخل ليحصلوا على الحكم الذاتي ضمن العراق.

بحسب ما يرويه "طالباني" فإن "عبد الناصر" رد عليهم قائلا: :"نحن في القومية العربية ليس لدينا موقف مبدئي ثابت من القضية القومية، على العكس من الشيوعيين الذين لهم موقفهم في هذا الموضوع".

ثم سحب الرئيس الراحل كتابا من مكتبته لفلاديمير لينين عن القوميات في الفكر الماركسي، ثم أكمل: "الماركسية لها موقف من هذه القضية. أنا استمعت لكم وسأفكر بما قلتموه، وعندما تعودون من الجزائر سيكون لنا لقاء"، مشددًا على عدم تجدد القتال وأهمية الكفاح العربي الكردي المشترك.

في الجزائر، تلقى جلال طالباني ورفيقه تأييدًا كبيرا من الرئيس أحمد بن بلة الذي دعم مطلبهم، بل إنه قال للحكومة العراقية: "يا إخوان.. ارضوا بالحكم الذاتي وأسرعوا بتطبيقه، لأنه سيأتي يوم يطابكم فيه الأكراد بأكثر من الحكم الذاتي".

كانت دفعة معنوية كبيرة للسياسي الكردي الشاب، وعندما عاد إلى القاهرة كان متشوقا لمعرفة رأي جمال عبد الناصر بعد دراسة طلبهم وقضيتهم.

قال "عبد الناصر" لجلال طالباني إنه موافق على طلب الحكم الذاتي، بل إنه خرج في تصريحات صحفية فيما بعد وقال: "وافقت بناء على الشرح الذي قدمه لي جلال طالباني".

لكن الرئيس الراحل طلب من الأكراد عدم البدء بالقتال، ومنح الحكومة العراقية الجديدة فرصة، ونبه "طالباني" إلى نقطة مهمة: "شاه إيران يستغل قضيتكم الكردية فلا تعطوه هذه الفرصة".

عندما نقل "طالباني" إلى "عبد الناصر" كلام رئيس الحكومة من أنهم يريدون عقد اتفاق الحكم الذاتي لكنهم "يخافون من عبد الناصر"، قال الرئيس المصري بوضوح: "أخبروه بأن يوقع معكم الاتفاق وأن تأتوا إلى القاهرة لأعلنه أنا بنفسي هنا".

لكن هذا لم يحدث، فعندما عاد جلال طالباني إلى بغداد وجلس مع وزير الدفاع العراقي ونقل له تأكيد "عبد الناصر" بالموافقة، ماطل المسؤول العسكري وطلب تأجيل توقيع الاتفاق لستة أشهر، ولما لم يكن في سلطة "طالباني" الموافقة، فإنه طلب الرجوع إلى مصطفى بارزاني.

عاد جلال طالباني إلى كردستان وشرح لـ"بارزاني" ما حدث فرفض التأجيل، وهكذا عادت الأمور إلى نقطة الصفر من جديد، لكن "طالباني" يقل إنه كان من بين الموافقين على مهلة الحكومة بشرط أن يمنحهم وثيقة مبدئية تقر بحقهم في الحكم الذاتي.

وعلى أي حال، توقفت المراكب السائرة في بحر المفاوضات، لكن الأكراد كما يؤكد "طالباني" حافظوا على وعدهم لـ"عبد الناصر" بعدم بدء القتال، وقرروا البقاء في موقف الدفاع.