الأربعاء 24 أبريل 2024 الموافق 15 شوال 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تقارير

"سنوات النار والثلج" (3): جلال "طالب ثانوي".. اعتقال ونفي و"حسن السلوك" تحرمه من كلية الطب

الرئيس نيوز

 - انتقل إلى بغداد لدراسة "الحقوق".. ودعم دعوى عمالية ضد شركة كان محاميًا لها

 مشروع لم يكتمل لرجل دين وهو طفل، مقاتل يحمل السلاح ويعيش في الجبال، سياسي مخضرم يصبح أول رئيس جمهورية كردي للعراق؛ هكذا عاش الرئيس الراحل جلال طالباني حياة حافلة بين "النار والثلج"، يمكننا أن نتعرف منها - إلى جانب سيرته الذاتية الثرية – على تاريخ العراق والعالم العربي في أكثر من نصف قرن.

كتاب "مذكرات جلال طالباني.. سنوات النار والثلج"، لمعد فياض، يقترب للغاية من الزعيم السياسي الكردي، في مهمة شاقة وثرية، عايش فيها محرر المذكرات الرئيس الذي يتمتع بالحيوية واليقظة، في أكثر من مدينة، وأنتج لنا العمل الصادر قبل سنتين عن دار "سطور" في بغداد.

ولا يخفي المؤلف إعجابه الشديد بشخصية "طالباني"، بل إن هذا هو ما دفعه لتحرير مذكراته التي يجدها مهمة شاقة، إذ "كيف يمكن لنا أن نلملم أطراف ذكريات رجل بدأ ينسج تاريخه الاجتماعي والثقافي والسياسي وهو في العاشرة من عمر طفولته".

"الرئيس نيوز" يعرض على حلقات مذكرات أول رئيس كردي في تاريخ الدولة العراقية، وسابع رئيس عراقي، ذلك الرجل الذي رفع شعار "الحرية لكردستان، والديمقراطية للعراقيين".

 

**

 

ما زلنا في تلك المرحلة التي كان جلال طالباني فيها يبلغ الثامنة عشر فقط لكنه أصبح "زعيما سياسيا" صغيرا في بلدته كويسنجق، إنه الآن انتقل إلى أربيل ليدرس في مدرستها الثانوية التي لا يوجد مثلها في بلدته.

في تلك الفترة كان "جلال" أنبغ رفاقه دراسيا وأكثرهم حنكة وقيادة، يقول صديقه فؤاد معصوم: "عندما كنا نواجه أي مصاعب، سواء خلال الدراسة في كويسنجق، أو فيما بعد في سنوات النضال السياسي والقتال في الجبل، ونعتقد أن حل مسألة ما يبدو صعبا أو مستحيلا، نلجأ إلى مام جلال الذي يستمع إلى المشكلة أو المسألة المعقدة ليبتسم ويقترح لها الحلول وليس حلا واحدا".

بالتوازي مع مشواره الدراسي الذي كان ناجحا فيه، خاض جلال جالباني في أربيل أول تجربة اعتقال سياسي له لمدة ثلاثة أشهر مع عدد من قيادات الحزب الديمقراطي الكردي، بل إنه واجه "النفي" إلى مدينة الموصل، بحكم المحكمة.

يحكي جلال طالباني: "ذهبنا إلى الموصل، واستأجرنا عدة غرف في فندق شعبي وكنا نطبخ طعامنا بأنفسنا، وكان من المفترض أن تدفع لنا الحكومة يوميا مبلغ مائة فلس لكل واحد منا، وهو حق النفي، ومضى أكثر من شهر من غير أن تدفع لنا الحكومة أي فلس، وكنا نتلقى المساعدات من عوائلنا".

بعد شهرين من نفيه ألغت محكمة الاستئناف الحكم بدافع وجود شك في اتهامه ورفاقه، وبالتالي عاد إلى بلدته كويسنجق "عودة المنتصر"، لكنه دفع ثمنا آخر وهو عدم إكمال دراسته الثانوية في أربيل، إذ تعذر ذلك بسبب اشتغاله بالسياسة، لذلك انتقل إلى كركوك.

تلك التنقلات كان لها جانب إيجابي "سياسي" في الحقيقة، إذ استقاد "جلال" من إقامته في أكثر من مدينة بما يثقله كسياسي واعد، ومن ناحية كان الحزب يستفيد من نشاطه في تلك المدن، رغم الاعتقالات التي تعرض لها أيضا في كركوك.

في فبراير 1951، كان الحزب الديمقراطي الكردي على موعد مع تغييرات "إصلاحية"، إذ جرى كتابة برنامج جديد للحزب وتغيير اسمه إلى "الديمقراطي الكردستاني". وكان الشئ الأهم بالنسبة لطالباني أنه انتخب في تلك السنة عضوا باللجنة المركزية للحزب، لكنه اعتذر لصغر سنه.

أنهى "جلال" المرحلة الثانوية وجاءت الجامعة. كان عليه أن يلتحق بكلية الطب وفقا لمجوعه العالي، لكن نشاطه الحزبي حال دون ذلك، إذ لم يستطع استخراج "وثيقة حسن السلوك"، فاختار كلية الحقوق، وكانت رغبة ثانية له، إذ حلم بأن يعمل بالمحاماة إلى جانب السياسة.

يمكننا أن نتوقف قليلا هنا ونقفز سنوات قليلة لنعرف كيف مارس "طالباني" المحاماة لمرتين فقط، الأولى عندما ألقي القبض على أستاذه بالحزب – ووالد زوجته فيما بعد- إبراهيم أحمد ودخل السجن في سنة 1960، فتطوع للدفاع عنه. أما المرة الثانية فتكشف عن شخصية "طالباني".

في تلك المرة، كان محاميا لشركة يملكها رجل أعمال عراقي معروف وقتها، هو رشيد عارف، وهو من الأكراد الدمقراطيين الأوائل، وأقام 17 عاملا بالشركة دعوى ضدها للمطالبة بحقهم في الحصول على تعويضات، فوقف "جلال" بجانبهم ضد شركته التي يمثلها.

يحكي: "أرسل رشيد عارف بطلبي، وكان غاضبا جدا مني، وكنت أعرف السبب، وقد تحضرت للرد عليه، وعندما دخلت إلى مكتبه سألني قائلا: أفندي، أنت محام عن الشركة أم محام عن البروليتاريا؟ فقلت إني محامي عن الشركة، فقال: لماذا فعلت ذلك يا أفندي؟ فأجبته بأني فعلت ذلك دفاعا عن سمعتكم وسمعة الشركة، فأنا، ومنذ صغري، أعرفكم وأعرف أن رشيد عارف رجل ديمقراطي من الرعيل الأول (...) وأنه يعز علي أن يشتكي عليك بعض العمال، وهذا يسيئ إلى سمعتك كرجل تقدمي وديمقراطي، فما قيمة التعويضات البسيطة أمام سمعتكم التي تساوي أموال الدنيا، فهدأ ونظر إلي وقال: عفية، خير ما فعلت".

نتوقف عن الاستدراك ونعود إلى مسارنا الطبيعي. في بغداد العاصمة، حيث كان يدرس الحقوق، استعت مهام الطالب "جلال"، إذ أصبح عضوا باللجنة المحلية لحزبه، وبدأ يعمل في صفوف الطلبة، ويقيم علاقات جيدة معهم، لاسيما "البعثيين" منهم.

لكن دراسة "جلال" في بغداد أتاحت له أيضا أكثر من الاحتكاك السياسي بالطلبة في العاصمة، إذ تمكن من السفر إلى خارج العراق أكثر من مرة، الأولى كانت في 1955 للمشاركة في مؤتمر الطلبة والشباب العالمي بوارسو، والتقى بوفود طلابية من أوروبا والاتحاد السوفييتي وإفريقيا والصين، بصفته الأمين العام لاتحاد طلبة كردستان.

تلك الرحلة فتحت لجلال طالباني أملا في لقاء الزعيم التاريخي للأكراد مصطفى بارزاني، الذي كان يقيم وقتها في موسكو، ورغم أنه قريبا من تحقيق أمنيته عندما مرّ بروسيا بعد الممؤتمر، فإن اللقاء تأجل لزيارة ثانية بعد سنتين.