الأحد 14 ديسمبر 2025 الموافق 23 جمادى الثانية 1447
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
عرب وعالم

نزاع سد النهضة: دروس في حوكمة المياه ومستقبل حوض النيل

الرئيس نيوز

في قلب القارة الإفريقية، وعلى ضفاف نهر النيل الذي لطالما شكّل شريان حياة لملايين البشر، تتصاعد أزمة سد النهضة الإثيوبي بوصفها واحدة من أكثر النزاعات المائية تعقيدًا في القرن الحادي والعشرين. فبينما تصرّ إثيوبيا على الإجراءات الأحادية، ترى مصر في المشروع تهديدًا وجوديًا لأمنها المائي، ويقف السودان في منطقة رمادية، تتأرجح بين المخاوف الفنية والمكاسب المحتملة. لكن ما تكشفه هذه الأزمة، كما يشير تحليل نشره موقع يورآسيا ريفيو المتخصص في الشؤون الجيوسياسية، يتجاوز الأبعاد السياسية والهندسية، ليصل إلى جوهر أكثر عمقًا: غياب حوكمة رشيدة للمياه في حوض النيل.

من مشروع تنموي إلى أزمة جيوسياسية ساخنة

حين أعلنت إثيوبيا في عام 2011 عن بدء تشييد سد النهضة على النيل الأزرق، رُوّج للمشروع باعتباره خطوة سيادية نحو التنمية وتوليد الطاقة الكهرومائية. ومع مرور السنوات، تحوّل السد إلى نقطة اشتعال إقليمي، مع تصاعد المخاوف من تأثيراته على تدفق المياه إلى دولتي المصب، مصر والسودان.

ورغم عقد عشرات الجولات التفاوضية برعاية الاتحاد الإفريقي وأطراف دولية، لم تنجح الدول الثلاث في التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن قواعد الملء والتشغيل. هذا الإخفاق التفاوضي لا يعود فقط إلى تباين المصالح، بل إلى غياب إطار مؤسسي فعّال لإدارة النزاعات المائية في الحوض، ما جعل من السد ساحة لتبادل الضغوط السياسية بدلًا من منصة للتعاون الفني.

حوكمة المياه: المفهوم الغائب

ويركز التحليل على أن جوهر الأزمة يكمن في غياب نموذج حوكمة مائية شامل في حوض النيل. فبدلًا من الاعتماد على اتفاقيات ثنائية أو تفاهمات مؤقتة، تحتاج دول الحوض إلى منظومة مؤسسية تضمن الشفافية، والمساءلة، وتبادل البيانات، والمشاركة المجتمعية في صنع القرار.

وترى إثيوبيا، من جانبها، في السد مشروعًا سياديًا لا يحتاج إلى موافقة خارجية، وتؤكد أن هدفه الأساسي هو توليد الكهرباء وليس تخزين المياه على حساب الآخرين. في المقابل، تعتبر مصر أن أي مساس بحصتها التاريخية من مياه النيل، التي تبلغ 55.5 مليار متر مكعب سنويًا، هو تهديد مباشر لأمنها القومي. أما السودان، فيجد نفسه في موقف معقد، إذ يخشى من تأثيرات فنية محتملة على سدوده، لكنه يرى أيضًا فرصًا في تنظيم تدفق المياه وتوليد الكهرباء.

هذا التباين في الرؤى يعكس غياب لغة مشتركة لإدارة المورد المائي، ويؤكد الحاجة إلى إطار حوكمة إقليمي يتجاوز منطق السيادة المنفردة، ويعتمد على مبادئ الاستخدام العادل والمعقول، وعدم الإضرار، والتعاون المستدام.

دروس استراتيجية من الأزمة

ويشير التحليل إلى أن أزمة سد النهضة تقدّم دروسًا استراتيجية لدول حوض النيل، بل وللقارة الإفريقية بأكملها، حول كيفية إدارة الموارد العابرة للحدود. من أبرز هذه الدروس:

- أهمية الشفافية وتبادل البيانات: فغياب المعلومات الدقيقة حول خطط التشغيل والملء أدى إلى تفاقم الشكوك، وأضعف الثقة بين الأطراف.

- ضرورة وجود آلية ملزمة لتسوية النزاعات: إذ لا توجد حتى الآن جهة تحكيمية أو قانونية يمكن الرجوع إليها لحسم الخلافات، ما يجعل كل طرف يتمسك بموقفه دون رادع.

- دمج المجتمع المدني والخبراء في صنع القرار: فالمفاوضات ظلت حكرًا على الحكومات، دون إشراك الجامعات، ومراكز الأبحاث، والمنظمات البيئية، ما أضعف من شمولية الرؤية.

- الربط بين المياه والطاقة والتنمية: إذ يمكن تحويل النزاع إلى فرصة للتكامل الإقليمي، من خلال مشاريع مشتركة في الطاقة والزراعة والبنية التحتية.

تغير المناخ يضاعف التحديات

في ظل التغيرات المناخية المتسارعة، يصبح ملف المياه أكثر تعقيدًا. فالتقلبات في معدلات الأمطار، وارتفاع درجات الحرارة، وتزايد الطلب السكاني، كلها عوامل تضغط على الموارد المائية وتجعل من التعاون الإقليمي ضرورة وجودية لا خيارًا سياسيًا.

سد النهضة، في هذا السياق، ليس مجرد مشروع هندسي، بل مؤشر على ما قد تواجهه إفريقيا من أزمات مائية مستقبلية، إذا لم تُبنَ آليات حوكمة فعالة. ويؤكد التحليل أن الاستثمار في بناء الثقة، وتبادل البيانات، وتطوير البنية التحتية المشتركة، هو السبيل الوحيد لتفادي صراعات مائية قد تكون أكثر خطورة من النزاعات الحدودية التقليدية.

نحو مستقبل مائي مشترك

ويختتم تحليل يورآسيا ريفيو بالتأكيد أن مستقبل حوض النيل يتوقف على قدرة دوله على تجاوز منطق الصراع، والانتقال إلى نموذج تشاركي في إدارة الموارد. فالنهر، الذي يخترق 11 دولة، لا يمكن أن يُدار بمنطق السيادة المنفردة، بل يحتاج إلى رؤية جماعية تضمن الاستخدام العادل والمستدام للمياه.

ويقترح التقرير إنشاء هيئة إقليمية مستقلة لإدارة مياه النيل، تضم خبراء من الدول المعنية، وتعمل وفق مبادئ علمية وقانونية واضحة، بعيدًا عن التجاذبات السياسية. كما يدعو إلى تعزيز دور المجتمع المدني، والجامعات، ومراكز الأبحاث، في صياغة السياسات المائية، لضمان تمثيل أوسع وتوازن أكبر في اتخاذ القرار.