تنح جانبًا أيها اللوفر: المتحف المصري الكبير يفتح أبوابه لتاريخ يمتد لخمسة آلاف عام
في لحظة تاريخية طال انتظارها، تفتتح مصر أبواب المتحف المصري الكبير، أكبر متحف أثري مخصص لحضارة واحدة في العالم، على مرمى حجر من أهرامات الجيزة الخالدة. هذا الصرح المعماري والثقافي، الذي استغرق بناؤه أكثر من عقدين، لا يكتفي بعرض الآثار، بل يعيد تقديم التاريخ المصري القديم برؤية معاصرة، تدمج بين العراقة والتكنولوجيا، وتضع الزائر في قلب التجربة الحضارية.
ولم يكن العنوان الذي اختارته شبكة تي آر تي التركية لتغطية الافتتاح – "تنحَّ جانبًا أيها اللوفر" – مجرد مبالغة صحفية، بل تعبير عن ثقة عالمية متزايدة بأن المتحف المصري الكبير قادر على منافسة أعرق المتاحف العالمية، ليس فقط من حيث الحجم، بل من حيث الأصالة، إذ لا يوجد متحف آخر في العالم يحتضن حضارة واحدة بهذا العمق والتنوع.
المتحف لا يُعد مجرد مشروع سياحي، بل هو إعلان ثقافي ورسالة سياسية ناعمة، تعكس طموح مصر في استعادة دورها كمركز حضاري عالمي، وتعيد رسم خريطة المتاحف الدولية من قلب الجيزة. وبينما تتسابق العواصم الثقافية على تحديث عروضها، يقدّم المتحف المصري الكبير نموذجًا جديدًا للمؤسسة المتحفية: مؤسسة لا تكتفي بعرض الماضي، بل تعيد تفسيره وتربطه بالحاضر.
من حلم إلى صرح عالمي
بدأت فكرة إنشاء المتحف في تسعينيات القرن الماضي، حين أدركت السلطات المصرية أن المتحف المصري القديم في ميدان التحرير لم يعد قادرًا على استيعاب الكم الهائل من الآثار، ولا يلبّي تطلعات العرض الحديث. وُضع حجر الأساس رسميًا عام 2002، في موقع استراتيجي يطل مباشرة على الأهرامات، ليكون امتدادًا بصريًا وزمنيًا للحضارة التي يرويها.
فاز التصميم المعماري للمتحف في مسابقة دولية كبرى، حيث اختير مشروع شركة Heneghan Peng الأيرلندية، الذي استلهم خطوطه من أشعة الشمس الممتدة من قمم الأهرامات الثلاثة، لتلتقي في كتلة مخروطية تمثل قلب المتحف. يمتد المتحف على مساحة تتجاوز 500 ألف متر مربع، ويضم أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، من بينها المجموعة الكاملة للملك توت عنخ آمون، التي تُعرض لأول مرة مجتمعة في قاعات مخصصة، إلى جانب تماثيل ضخمة لرمسيس الثاني، ومراكب الشمس، ومجموعة نادرة من البرديات والمجوهرات والأسلحة.
تجربة متحفية غير مسبوقة
ما يميز المتحف المصري الكبير ليس فقط حجم مقتنياته، بل طريقة عرضها. فبدلًا من التكديس التقليدي، اعتمدت إدارة المتحف على تقنيات عرض حديثة، تشمل الإضاءة الذكية، والواقع المعزز، والتفاعل الرقمي، مما يسمح للزائر بالتنقل بين العصور، وفهم السياقات التاريخية والاجتماعية لكل قطعة.
يبدأ الزائر رحلته من "البهو العظيم"، حيث يستقبله تمثال ضخم لرمسيس الثاني، يليه "الدرج العظيم" الذي يصعد بالزائر بصريًا وزمنيًا نحو قلب الحضارة. ومن هناك، تنفتح القاعات على محاور زمنية وموضوعية، تشمل الحياة اليومية، الديانة، الحكم، الفن، والعلوم في مصر القديمة. كما يضم المتحف قاعات عرض مؤقتة، ومساحات تعليمية، ومراكز بحثية، تتيح للزائر أن يعيش تجربة معرفية متكاملة.
رسالة حضارية تتجاوز السياحة
افتتاح المتحف المصري الكبير لا يُعد حدثًا سياحيًا فقط، بل هو إعلان عن عودة مصر إلى المشهد الثقافي العالمي بثقة وطموح. فالمتحف يعكس رغبة الدولة في تقديم سردية حضارية متماسكة، تضع التاريخ المصري في سياقه العالمي، وتقدّمه كأداة لفهم الذات والآخر.
اقتصاد الثقافة: استثمار في المستقبل
يتوقع أن يجذب المتحف ملايين الزوار سنويًا، ما ينعكس على الاقتصاد المحلي من خلال تنشيط قطاعات السياحة، الفندقة، النقل، والخدمات. كما يضم المتحف منطقة تجارية متكاملة، وقاعات مؤتمرات، ومراكز تعليمية، وحدائق خارجية، مما يجعله مجمعًا ثقافيًا متكاملًا، لا مجرد صالة عرض.
وأُنشئ داخل المتحف أكبر مركز لترميم الآثار في الشرق الأوسط، يضم مختبرات متخصصة في حفظ وصيانة القطع الأثرية، ويعمل فيه عشرات الخبراء المصريين والدوليين، ما يعزز من مكانة المتحف كمركز بحثي وعلمي. هذا الاستثمار في البنية التحتية الثقافية يعكس تحولًا في رؤية الدولة تجاه التراث، من كونه عبئًا إداريًا إلى كونه أصلًا اقتصاديًا واستراتيجيًا عالي القيمة.
من الجيزة إلى العالم
افتتاح المتحف المصري الكبير يعيد توجيه أنظار العالم إلى الجيزة، ليس فقط كموطن للأهرامات، بل كعاصمة ثقافية جديدة. وبينما تتراجع الثقافة لصالح الاستهلاك السريع، ينهض المتحف المصري الكبير كصرح يذكّر العالم بأن الحضارة ليست مجرد آثار، بل سردية مستمرة، تُروى من جديد في كل جيل، وبكل لغات العالم.
المتحف لا يكتفي بعرض القطع الأثرية، بل يقدّمها ضمن سياق سردي متكامل، يربط بين الماضي والحاضر، ويطرح أسئلة حول الهوية، والسلطة، والروح الإنسانية. إنه ليس مجرد متحف، بل منصة حضارية، تفتح أبوابها للعالم، وتدعوه إلى إعادة اكتشاف مصر، ليس فقط كوجهة سياحية، بل كمنبع للمعرفة والجمال والتاريخ.